مرتضى المراغى شاهدًا على حكم فاروق (7)
ويمضى أحمد حسين فى سرد كيفية حصول حريق القاهرة، فيبدى بمذكرة دفاعه أنه لم يكد ينتصف النهار حتى كانت القاهرة كلها قد غرقت فى الحمى، فقد تسامع الجميع بانضمام البوليس إلى المتظاهرين، وراح الجميع ينفسون عما فى صدورهم من سخط متوارث مكتوم. وعادت جميع المدارس إلى إغلاق أبوابها بعد أن هجرها الطلاب، وغادر العمال مصانعهم، وبدأت جموع الشعب تتكتل حول مجلس الوزراء وفى ميدان عابدين ووسط القاهرة. وفى ميدان عابدين رأى ضباط الجيش بأنفسهم شعور الجماهير، وهتافهم الداعى إياهم للاشتراك فى الكفاح وسقوط حيدر والمطالبة بالسلاح.
وقد حضر عبد الفتاح حسن ــ فيما يستطرد أحمد حسين ــ حضر إلى مجلس الوزراء ليخطب فى المتظاهرين فلم يستطيع أن يتكلم لكثرة الهرج والمرج. والهتافات العدائية. وقد كان على رأس المتجمهرين ضباط من الجيش ؛ وقد تجاوز أحدهم عبد الفتاح حسن وسبقه إلى مخاطبة الجماهير فندد بموقف الحكومة وموقف سراج الدين.
وقد أذاع على الجمهور تعليمات سرية وزعت على أفراد الجيش تدعوهم إلى الابتعاد عن المدنيين، وعدم الخوض فى حديث إلغاء المعاهدة، وأن كل ضابط يشعر برغبة فى الدفاع عن البلد يُكتب فى قائمة سوداء ويتتبعه البوليس السياسى.
وخطب بعد هذا الضابط عساكر من الجيش وعساكر من البوليس وعمال وطلبة.. وكانت الجموع الحاشدة تهتف منادية بسقوط حيدر والحكومة وسراج الدين.
وأخيرًا جئ بميكرفون واستطاع عبد الفتاح حسن أن يتكلم.. ولكن الجماهير عادت لمقاطعته بشدة.. وبدأ ضغطها يزداد.. فلم يسع الوزير إلاَّ أن يهتف بسقوط الاستعمار وسقوط انجلترا وسقوط البغى والعدوان.. وهكذا تحول الوزير إلى الهتاف ليستطيع إنقاذ نفسه وإنقاذ مجلس الوزراء من سخط الجماهير.
حريق كازينو أوبرا
وبينما كان هذا يجرى فى مجلس الوزراء، كان هياج الجماهير قد تطور إلى مرحلة جديدة، وهى النتيجة الطبيعية لاستمرار المظاهرات منذ الصباح المبكر حتى الساعة الواحدة بعد الظهر دون وجود ضبط أو ربط فى المدينة، وانهارت هيبة الحكومة والقانون، وكان هذا التطور هو حريق كازينو أوبرا. فالنار تشتعل والجمهور يذكى إشعالها دون أن يتحرك رجال البوليس أو يمدوا يدا للحيلولة دون الاستمرار فى إذكاء النيران. بل إن رجال المطافئ قد دعوا للإطفاء فرفضوا أن يحضروا تضامنًا منهم مع رجال البوليس علمًا بأن المطافئ العمومية لمدينة القاهرة لا تبعد سوى بضعة أمتار عن كازينو أوبرا.
ويروى أحمد حسين بمذكرة دفاعه، أنه علم فيما بعد أن أحد الوزراء قد ذهب بنفسه فى ساعة متأخرة للإشراف على عملية إطفاء كازينو أوبرا، وأنه ــ على ما قال ــ كان يرى الناس من حوله وهى لا تمد يدًا أو عونًا للإطفاء كأن الأمر لا يعنيها.. بل إن شعوره الداخلى كاد يدفعه ليتصور أن كثيرين من الناس حوله كانوا يريدون أن يروا النار أكثر اشتعالاً.
ويستطرد أحمد حسين أنه قد هاله أن تطور الحوادث إلى هذا الحد، ينذر بأعظم شر، فأسرع بالاتصال بالأستاذ إدجار جلاد صاحب الزمان لمعرفته بمدى صلته الوثيقة بالمسئولين، فعلم منه أنه نشر فى جريدته المعلومات السابقة كلها، وأشار إلى تمرد رجال بلوكات النظام وأن الداخلية أرادت أن تصادر الجريدة، فاحتج عليها لأنها لم تصدر تعليمات فى وقت مبكر لعدم نشر هذه الأنباء ولذلك فهو مصر على تلك الجريدة ويتعهد ألا يصدر بعد ذلك ملاحق أو يشير إلى ما حدث. ويظهر أن البوليس أخذ بوجهه النظر هذه وترك الجريدة بغير مصادرة.
فسأل الأستاذ جلاد : هل يعلم أن ألأمور تفاقمت وأن الجماهير بدأت فى إشعال النيران ؟ فأبدى انزعاجه بهذا النبأ.. فراح يصور له خطورة الموقف كما بدأ يلمسه وهو فى فراش المرض من الأنباء التى تصله تباعًا من هنا وهناك. وأنه لا يمكن أن تعيش أمة هكذا بغير حكومة لأنها لم تعد فى البلد حكومة وأنه لا سبيل لإنقاذ الموقف إلاَّ بإقالة الحكومة فورًا وتأليف وزارة جديدة برئاسة على ماهر، وطلب منه أن ينقل رأيه هذا إلى من يرى نقله إليه من المختصين.. مشفوعًا بإشفاقه على ما سيحل بمصر إذا استمر الحال على هذا المنوال. فوعده إدجار جلاد بأن يفعل ذلك.
ومضى أحمد حسين يروى دقائق الأحداث التى وصلته وهو على فراش المرض بالمنزل (!!!) فأورى بأنه لم تكد الساعة تبلغ الثالثة مساءً حتى فهم من بعض محررى أخبار اليوم الذين اتصل بهم ــ من على فراش المرض ! ـ أن الحرائق قد انتقلت إلى سينما ريفولى وراديو وميامى، وأن الفوضى قد انتشرت فى كل مكان، وأن البوليس يقف موقف سلبيًّا، والمطافئ لا تتمكن من القيام بعملها، وقد جعل الجمهور يقطع خراطيم المياه ليحول بينها وبين الإطفاء، ومن ثم فقد قرر أحمد حسين أن يتصل ــ من على فراش المرض ! ــ برفعة على ماهر باشا الذى قدر أنه الرجل القادر على إنقاذ الموقف !
www. ragai2009.com