لا يمكن أن يوجد تطابق تام فى لحظات وحركات وكلمات وتوجهات أى آدمى فى أى زمان ومكان.. لأنه دائم التحرك دائب التغير من مولده إلى نهايته، لكن الآدمى دائما متشابه فيما تعوده فى انتقالاته وتقليداته وتفصيلاته خلال أزمنة حياته مع انتقاداته واعتراضاته وتنكره وغضبه وأحقاد خصوماته المتوارثة وعداواته. هذا والمتشابهات تتباعد باطراد مع تباعد الأوقات والأعمار والأزمنة والأمكنة والعصور والقرون.. تتعرض فى كل ذلك لصنوف المقادير والأحوال مثلما تتعرض لمفاجآت الزوابع والكوارث جوية وأرضية.. والأحياء البشرية على تلك النوازل من قديـم القديم، إلاّ أن كثرتها الهائلة وما يتبعها من أزمات واختناقات قد زادت كثير الكثير عن الحد.. ولا سبيل إلى مواجهتها مواجهة مجدية إلاَّ بزيادة تعميق التعامل والتبادل مع الفضاء الكونى الهائل، وزيادة هذا التعامل زيادة مطردة مستمرة.. تحاول ولو أحيانا جذب ما تستطيع جذبه، من أغلبية عالمنا الحالى الشارد عن الإفاقة والفهم الصحيح للعاقل فى زمانه!
فالخلط الضخم الذى لا أول له الآن ولا آخر فى كل جماعة متقدمة وغير متقدمة.. قد أربك وضلل الخاصة والعامة معا. وهذا المخلوط السائد المتنقل الذى لا يكف جديده عن قديمه.. قد حير الأطباء والصيادلة وشتت شمل المرضى.. فلم يعد يُعرف منا من هو الجاد ومن هو غير الجاد ومن يمكنه أن يُشفى بجديته ودأبه هذه الأسقام ومن لا يمكنه.. وقد بتنا اليوم خليطاً هائلاً كئيباً لا نعرف حقه من باطله ولا صحيحه من كاذبه وخادعه!
لأن يومنا هذا لا يعتد ولا يحفل إلا بالنقود دون المجهود.. يجرى هذا فى حياة الآدميين على اختلاف صفاتهم وأعمارهم وأحوالهم فى كل بلاد الدنيا.. ولم تعد النقود اليوم ذهبا وفضة كما كانت قبل الحرب العالمية الأولى، وقد امتدت الحاجات والشهوات معا لدى حكام الدول الكبرى وبنوكها وشركاتها الضخمة التى تنتشر فى البلاد والقارات.. ولم يعد ممكنا الاكتفاء والاعتناء بالثروات المعترف بها بين الأمم اعتناء ماديا تلمسه الأيدى وتحمله الجيوب وتحفظه الخزائن من السلب والنهب، ولم يعهد هناك مجال لهذا التحفظ والعناية إلاّ بالتوافق والإقرار المسلم به بين الأمم وبقيمه المختلفة فى الحساب والتملك والأخذ والعطاء للدائنين والمدينين وأصحاب الأموال بلا عملة من ذهب أو فضة فى المحل أو المكتب أو الدار.. إلاَّ نادر النادر.. إذ يكفى أصحابها إبراز أوراق النقد أو الشيكات أو التحويلات أو بطاقات الائتمان التى ألغت تماماً ما كان يجرى به التعامل فى الماضى!
هذا الكيان المالى الهائل غير المادى معرض للخراب التام إن يئست العامة يأسا تاما من دنياها والعياذ بالله… الناس الآن فى نَصَبٍ لم يعرفوه سلفا، وفى جهد ضيـق يـزداد شـدة وأحيانا محنة أو محنات.. ولم يعد أحد يعرف حتى أعقل العقلاء متى يتوقف اطراد هذا البلاء!
والموسرون حكاما وغير حكام مع قلقهم الشديد المكتوم وحيرتهم وخوفهم الهائل على ما عند كل منهم، يملأون جو الأرض بما رحبت نهارًا وليلاً بالأصوات والتصورات المقولة والمكتوبة والمعلنة والمستورة والمنشورة فى الأجواء دون انقطاع دفاعاً منهم وحيلة وإمعانًا فى الأمل بالفرج من العسرة العامة فى عالمنا الحاضر الذى تتفاقم أزماته يوما وراء يوم.. هذه العسرة التى يرجع أغلب أغلبها إلى الأنانية الموسرة وغير الموسرة فى هذا العالم الدنيوى الذى يفوز فيه فقط الفاجر والغادر والماكر والساقط!
وقد يحدث الانتقال من هذا أو ذاك إلى خليفته ولمن هو أشر منه فى جموحه ومنه إلى من هو أكثر منه طغيانا فينعم بما فاز به من غنم بعضا من الوقت ثم تختفى دنياه أو تنقلب حظوظه فيتعثر ويعسر ولا ينهض من عثرته.. إذ هى دائرة جارية جوالة لها ماضيها الطويل بقربها وبعدها وحاضرها المنتشر اليوم انتشارا لم يعرف مثله من قبل سائدا فى مشارق الأرض ومغاربها لم يقاومه جادون مصرون واثقون، بل غاضبون ساخطون كارهون يائسون قانطون.. قد يلعبون لكى يهيجـوا ويدمـروا ويخربوا بلا عقل، مستسلمين لموجات انفعالاتهم المتعاقبة وخيالهم الدائب التقلب والانفجارات دون فائدة أو جدوى لما يريدونه فعلا أو توهمًا!!
* * *
وشتان بين البشر اليوم، وما كانوا عليه فى الماضى سحيقه وقديمه وقريبه، فالبشرية كافة، فيما نعرفه اليوم، وما تداول على أفرادها وجماعاتها من تكرار الوجود والعدم، وما صاحبهما من زيادة وانتقاص وانتقاص وزيادة، تعرضت للانكماش والامتداد، ولم تتوقف سطحيتها الشاملة عن الانتفاع بالحواس التى يشغلها «الخارج» ومظاهره، ويصرفها عن «داخل» الآدمي فى حاضره ومستقبله.
فدنيا الآدمي كانت ولا تزال دنيا «خارجه».. تسيطر عليها ضوضاء وغوغائية هذا «الخارج» الذى لا يتركه الآدمي على هذه الأرض التى باتت هي كل دنياه وغطت تماماً على آخرته!
إزاء سطحية البشر، وتعلقهم بالظواهر، انصرف معظم الناس عن تمثل المعاني وما يموج به «داخل» الآدمي، فذاب «الداخل» كله فى «الخارج» الأرضى.. ولم يعد الآدمي يفكر تفكيرًا حقيقيًا فى آخرته إن ذكرها!
www. ragai2009.com