يبدو للمتأمل أن أزمات الكساد ــ هى أوان وأرض الفتن، ومواسم الاضطرابات والقلاقل. فهذه الازمات تمثل فى عيون الناس ــ مواطن ضعف فى القيادة أيًّا كانت كفاية القادة والحكام، فجمهور الناس يسعى ويعيش على رزق يومهم، ويزلزل حياتهم حرمانهم منه أو حتى مجرد تهديه بذلك!
وكل جرأة ليست إلا حمأة على مخالفة المألوف المعتاد الذى سار عليه الآدمى فى حياته وبيئته وخف عليه حمله فلم يعد يشعر به، فإذا هدد الكساد أرزاق العامة تغيرت نفوسهم حتماً.. وصار كل منهم يراجع وضعه على مقدار فطنته وفطنة من حوله، وتطّلعَ شرهًا إلى معرفة المتسببين فى أزمته وأزمة أمثاله وخاصة المستفيدين منها.. وجرأه ذلك على رفع صوته بإعلان بعض ما يجيش فى صدره من الشكوى والغضب والاتهام. وإذا اشتد عليه الموقف تجمع فى مواكب ثم فى فرق يقودها دعاة الفتنة من الانتهازيين والطامعين خاصة إذا أسعفوا أتباعهم بالمال وعودوهم على ذلك، فيصير ولاء التابع ودوره صورة من صور الاحتراف لا يسلوها صاحبها متى اعتادها إلا بصورة أخرى تحل محلها تكون فى الغالب أكثر إيغالاً فى عدم الاستقامة.. هذا ومعقبات الفتن والاضطرابات لا تخلو قط من وجود أشرار وشرور ناتجة عنها وباقية بعدها يحتاج زوالهم وزوالها إلى سنوات!
وتواجه الحكومات فى القرن السابق والحالى مغامرات كثيرة المخاطر جمة المجازفات، سواء كان حكمها ديمقراطيا أو استبداديا.. وقد زادت مخاطر الحكم فى أيامنا هذه لكثرة ما يحدث من الأزمات الاقتصادية بما تتعرض له أرزاق العباد من الكساد وصعوبة مواجهة ذلك بنجاح لازدياد انتشار مصادر وأسباب الأزمات وارتباطها الذى يزداد وثاقة بالاقتصاد العالمى الذى زمامه ليس فى يد هذه الدولة أو تلك تسوسه وتوجهه كما تريد.. بل هو يحتاج باستمرار إلى اتفاق من وقت لآخر بين أهم الدول وأوسعها اقتصادًا فى العالم على الخطوات اللازمة لحل ما يعترضها بكثرة من المشاكل والمخاطر المشتركة فى اقتصادياتها بالنظر إلى كل منها وإلى مجموعها.. فهذه الحال مصدر قلق مستمر للجميع..لا يهدأ معه بال لأى حاكم أو حكومة إلا مؤقتا ولفترة تقصر أو تطول تعقبها أزمة معها كساد أو تهدد بكساد!
ولاية الحكم فى زماننا فيها معنى قريب جدًا من المغامرة التى تستنهض الفطنة والاحتراس.. إذ هى تنشد النجاح فيما أخفق فيه السابقون.. وتعرضها المصاعب والصدف والاحتمالات القاسية حتى برغم الفوز، لأن المخاطرة كلما تكررت زاد معها الميل إلى الجرأة وزاد استخفاف الجرىء واستبعاده ــ بلا بينة حقيقية ـ لإمكان فشله. وقريب من هذا يحدث للآدمى العادى فى قليل أو كثير من مساعيه، كما قد يحدث للمشتغلين بالعلوم أو الفنون.. وهو سبب قوى من أسباب ضعف قبول معظم البشر للعلوم الوضعية برغم أن نواتجها وآثارها صارت تملأ الآن معظم يقظتهم ونومهم. إن معظمنا يتمسك حتى الآن وإلى مستقبل غير قصير بخيالاته وآماله غير المبنية على واقع بَشّر بـها فعلاً!
وتقترن جرأتنا حين نمارسها بالجمع بين الثبات والإصرار وبين الملاينة والسلاسة.. وهذه عبارة عن ملاطفة مع الغير بقصد تهدئته واكتساب ثقته ورضاه.. لا تحتاج إلى إخلاص حقيقى لأنها عرض لمظاهر وأمارات الود فى الحديث والمسلك لاكتساب الثقة والرضا. وربما لا يخلو أحد كبر شأنه أو صغر من اللجوء إلى الملاينة فى الأسرة والصحبة والعمل واللهو.. بل ويحرص القوم عليها فى الإدارة والحكومة ومساعى السلام أو حتى فى إدارة الحرب.. وكلنا يحاكى بعضنا البعض شعوريا ولا شعوريا فى أساليبها ووسائلها.. واستعمالها عادة سائد فى عموم البشر فى كل مكان وزمان، برغم وقتية نفعها إن نفعت، وغصة الاتكال عليها لمن يركن بثقله إليها فلا يلاقى فى النهاية إلاّ الإحساس بالأسى الممض حين يتبين أنه كان فى المحاولة ، الأكثر غبنًا والأفرغ كفًا والأوسع خسارة والأعمق حسرة!
www. ragai2009.com