فى زماننا هذا قد استشرى شيوع تلك الأنانيات الاتفاقية الاقتصادية المالية فى جميع البلاد تقريبًا، ولم يعد هناك أمل يذكر فى رد أفرادها حقًا وصدقًا عن الأنانية الشرهة الجامعة للغرور والطمع !.. لكن أغلبية الناس هنا وهناك، لم تجد فرصة بعد لمواجهة تلك السيطرة والسطوة، فلجأت إما إلى تقليدها تقليدًا لا يجدى ولا ينفع، وإما إلى الغضب الشديد الذى ينحو إلى صب اللعنات فى الخفاء، أو التجريح فى العلن.. فلا اللعنة أجدت ولا التجريح شفى أو أشفى.. فكلاهما خال من أى علاج جدى يمكن مع الزمن أن يؤدى مع الإصرار والمثابرة إلى رد أمور الناس إلى الذمة والاتزان.. فنحن اليوم فى ظلمة حالكة من انعدام الثقة فى المستقبل، والهرب الضرير من مواجهة الواقع المختل التعس.. لا يجد معظم الناس إلاّ التنفيس بصب اللعنات، أو النسيان باللعب أو اللهو والتسلية، فهو تسليم واستسلام إلى سوء المصير فى الحالين، وسلبية غير منتجة إزاء كآبة هذا الواقع التى تغطيها كثافة سحب اليأس والقنوط!
***
والبشر فى كل زمان ومكان ـ يستسلمون لعاداتهم بسهولة.. حسنة وغير حسنة.. معقولة أو غير معقولة.. مفيدة أو ضارة.. وهو ما يسىء فى الجملة إلى استقامة رقيهم وانتظام تطورهم من جيل إلى جيل أو أجيال.. وقد أدى الماضى البعيد أو القريب إلى هلاك الملايين فضلا عن إزالة أمم بأسرها فى الفتوحات السابقة.. وقد نسينا الآن ذلك كله تمامًا!
علاقات الآدميين بعضهم ببعض، منذ خلقوا حتى الآن، علاقات هشة تزول بسرعة ليحل الأجنبى الجديد فيها محل المواطن القديم الذى زال وزالت معالمه معه.. وما نعرفه اليوم عن الماضين خاصة القدماء، ليس إلا معرفة ما فى بطون الكتب أو آثار التاريخ القديم هنا وهناك!.. انتهت بهذا الماضى علاقاتنا الفعلية تمامًا ليبقى التاريخ والمتحف لمن يريد أن يعرف شيئًا عن الفانين يجد له مكانًا محدودًا فى خاطره!
واندفاع الآدمى منذ خلق وحتى اليوم والغد ـ هو إلى خارجه دون أن يحسن التحرى والمعرفة الجيدة لمن هو منهم ولهم ومعهم.. هذا الاندفاع شىء طبيعى جدًّا لأن الآدمى لم يولد قط عاقلاً.. وهو لم يعقل قط معنى كلمة الأب أو الأم أو الابن بمعناها الملىء حتى اليوم والغد.. لأنه طُرِدَ طردًا إلى خارجه ليعيش.. حتى إذا كبر ورشد ليسعى.. طفق يتوزع عنده ما تجمع من عقل ـ على مساحة من الناس تتسع وتضيق ـ لا يأخذ منها نصيب الأب أو الأم أو الابن إلا قليل القليل!.. فرشاد البشر دائمًا ناقص وسطحى وهش قابل للإفساد إنْ زاد عن الشك أو الارتياب!
وأهم داع للاندفاع الخارجى فى نظر البشر هو الاتساع النسبى لمساحة الأرض التى تفرقت عليها الجماعات البشرية من قديم الزمان.. قد اكتظت فى زماننا هذه المساحة بالخلق، وظهر الضيق ومعه اليأس الغامض فى النفوس، ولم تعد الأغلبية الغالبة تترقب ـ كما كانت ـ مستقبلاً أسعد !.. بل صارت تتوقع غدًا أشد ظلمةً أو إبهامًا أو نكبات!
وفى الاهتمام البادى الآن لمستقبل البشر فى الفضاء العظيم البعيد عن أرضنا.. ميل جاد آخذ فى الانتشار فى البلاد المتقدمة.. تقلده محاولات من البلاد الجاهدة إلى نفس الغاية والأمل.. وهو سعى بالغ الأهمية إن استمر.. لم يعرفه من قبل أهل الأرض.. يقدم ما تحتاج إليه أرضنا الآن وفى المستقبل، ويغير ما لا حصر له مما تعودناه وألفناه حتى الآن. فما هى قدرتنا الحالية على ذلك التغيير الطفيف.. وهل يمكن أن يقودنا إلى العجز التام وهلاك العاجزين، وتنتهى به صفحة البشرية كما انتهى غيرها من الأحياء الماضين؟!
وحتى الآن لم يعش أغلب الناس فى أى مكان حياة عاقلة يتناسب بعضها مع بعض فى حدود مرعية مثبتة متبعة تجعل الحياة متناسبة متسقة.. وهو خلل دائم لم يتخلص منه الناس حتى اليوم.. زاد كثيرًا فى أيامنا لشعور العامة، وهى الغالبية الغالبة، بدورها وخطرها على أى نظام عام فى أى بلد.. مع ملاحظة الاختلاف الواسع اليوم بين نظرة العامة لما تراه معقولاً مناسبًا، وبين نظرة أهل العلم الوضعى والفلسفة المليئة بالتعمق والتجلى، فضلاً عن تميزهم المادى على العامة تأكيدًا لسيادة القلة الثرية منذ وجدت فى أى زمان ومكان، وهو تفريق مرير طال الصبر عليه ـ وزاد وفاض الآن واستشرى وتشعّب!!