لا أصل للخلافة فى الإسلام ! (10)
صواب رؤية الأستاذ العقاد
حين كتب الأستاذ العقاد كتابه الضافى: «الفلسفة القرآنية» الصادر سنة 1947، كان قد صدر من أكثر من عشرين عامًا كتاب « الإسلام وأصول الحكم » للشيخ على عبد الرازق، ورسالة «فقه الخلافة» للأستاذ السنهورى، وما رمت إليه هذه الرسالة ـ مع إقرارها بأن الخلافة كانت «ناقصة»، بعد عهد الراشدين، من تحقيق وحدة الأمة فى صورة تنظيم سياسى يضمن لها المكانة الدولية، مع تسليمه بأن الظروف الحاضرة ـ آنئذ ـ يتعذر فيها إقامة الخلافة الكاملة الصحيحة.
ويلاحظ أن الأستاذ العقاد قد تحاشى بكتابه «الفلسفة القرآنية» الدخول فى هذه المنطقة التى تباينت فيها الآراء، ورأى كفايته فيما تضمنه القرآن الكريم من آيات واضحة صريحة تقرر مبادئ الحكم فى الإسلام، وتحكم أى حكومة أيًّا كان شكل النظام السياسى الذى تتبعه.
واحتكم الأستاذ العقاد من البداية، إلى سبع آيات قرآنية، يستهل بها حديثه :
«وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ» (الشورى 38)
«وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ» (آل عمران 159)
«وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (الشعراء 215)
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (الحجرات 10)
«إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ» ( الكهف 110 )
«قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ» (آل عمران 64)
«وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ» (ق 45)
وجملة ما يقال فى هذه الحكومة المحكومة بهذه الآيات القرآنية، أنها الحكومة التى لمصلحة المحكومين، لا لمصلحة الحاكمين.. يُطاع الحاكم ما أطاع الله، فإن لم يطعه فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق..
«أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنكُمْ» (النساء 59)
«وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ» (النساء 58)
ويرى الأستاذ العقاد أن كل أركان حكم الأمة قائم فى هذه الحكومة التى أرسى القرآن مبادئها.
ولا يفوت المتمعن، أن الأستاذ العقاد أفصح عن أن الحكومة التى وصفها القرآن، هى حكومة توافق الحكومات العصرية، وأن سمتها البارز هو الديمقراطية، وتدار على مبدأ الشورى والمساواة، ولمصلحة المحكومين، ورفض السيطرة الفردية أو الاستبداد.
وهو بذلك يؤصل أن هذه الحكومة ليست حكومة ثيوقراطية تحكم باسم الإله، أو تدعى أنها ظله فى الأرض، وقد رأينا فى مقالة له عن « حكومة النبى وخلفائه »، إفصاحه عن أن حكومة النبى عليه السلام وخلفائه الراشدين لم تكن حكومة « ثيوقراطية »، أى حكومة يستأثر بها رجال الدين أو طائفة من الرهبان والأحبار، ولا تشارك فيها الأمة برأى، وإنما الحكم فى الإسلام حق لجميع المسلمين، يتولاه الأكفأ الصالح له الذى تتفق الجمهرة على صلاحيته للحكم.
هذا وليس رفض «الثيوقراطية» والانحياز إلى حكومة مدنية خروجًا عن الإسلام، وإنما رفض للحكومة الدينية التى ترى أنها تحكم باسم الله، وأنها ظله فى الأرض، تتحدث بمشيئته وتعمل بإرادته كما أبدى أبو جعفر المنصور صراحة فى إحدى خطبه، أما الحكومة المدنية فإنها لا تنسلخ من الإسلام، وتطبق أحكامه ومبادئه المنظمة للحياة دون أن تتماحك بأنها تحكم باسم الله أو أنها ظل الله فى الأرض، وعلى العكس من هذا النظر« الثيوقراطى» بدأ أبو بكر خلافته بخطبة قال مما قاله فيها: «قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن صَدفت (أى حدت) فقومونى».
وقال عمر بن الخطاب فى أول حديث له بعد مبايعته: «أيها الناس! ما أنا إلاَّ رجل منكم، ولولا أنى كرهت أن أردَّ أمر خليفة رسول الله ـ ما تقلدت أمركم »، وعاد فقال فى اليوم الثالث لولايته: «ولكم علىّ ألا أجتبى شيئًا من خراجكم ولا ما أفاء الله عليكم إلاّ من وجهه، ولكم علىّ إذا وقع فى يدى ألا يخرج منى إلاّ بحقه.. فاتقوا الله، وأعينونى على أنفسكم بكفها عنى ! وأعينونى على نفسى بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإحضارى النصيحة فيما وليت من أمركم».
عود على بدء لقد ألممنا إلمامة سريعة بما قاله الشيخ على عبد الرازق فى الإسلام وأصول الحكم وقلب عليه الدنيا من نحو قرن، وعادت فاتسعت له عقول وآراء بعد سنين، وبما قاله الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهورى فى فقه الخلافة، والذى لم يمنعه تشيعه لها من أن يصف ما بعد الخلفاء الراشدين بأنه « خلافة ناقصة » لأنها لم تطبق المبادئ التى أوردها القرآن والسنة فى شأن الحكم.
ولا أحسب أننا فى تلمس ورؤية طريقنا إلى الله وإلى طاعته والتزام أوامره ونواهيه ـ بحاجة إلى كل هذا التنظير، وحسبنا أن المبادئ التى يتعين التزامها فى الحكم، مبادئ واضحة جليّة فى عشر آيات قرآنية، وفى السنة الشريفة التى لم تخالف الكتاب المبين. وأن ما التزمها كان فى الطريق إلى الله وعلى أحكامه وشريعته، وأن ما خالفها أو ناقضها أو تحايل عليها ـ ليس من الدين فى شىء، وإنما هو بمعزل عن الطريق الواضح الجلى إلى الله عز وجل.
وواضح أن الإسلام قرآنًا وسنةً، قد اكتفى بهذه المبادئ العامة، وهى تصلح للحكم والحكومة والحاكم، وتصلح للحياة العامة وما تستلزمه الحياة الخاصة أيضًا.
بيد أنه لم يرد فى القرآن الكريم، ولا فى السنة النبوية، إلزام بشكل ونظام حكومة معينة، ولو أراد الله تعالى أن يلزم المسلمين بشكل ونظام وحكم بعينه، لنص عليه فى القرآن المجيد، وهو سبحانه القائل عنه فيه: «مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَيْءٍ» (الأنعام 38)، ولازم ذلك أن خلو القرآن من تحديد شكل ونظام معين للحكم، أن إرادة الله تعالى لم تشأ ذلك، وإلاَّ لنصت عليه.
ولو كان النبى عليه الصلاة والسلام، أراد شيئًا من ذلك، لتحدث به حديثًا صريحًا محددًا، ولو كان يريد استخلافًا فى شكل خليفة وخلافة ـ لأمر بذلك، ولو كان قد أراد أن يستخلف أحدًا بعينه، ما حجزه عن ذلك حاجز ولا حائل، ولكنه عليه الصلاة والسلام فارق إلى ربه، دون أن يستخلف أحدًا، ودون أن يعين أو يحدد خلافة، ودون أن يرسم أى شكل ونظام للحكم على المسلمين اتباعه والالتزام به.
نحن إذن أمام مبادئ عامة، تصلح للحكم ولغير الحكم، ويصلح بها حال الحكم وغير الحكم، ولا يحتاج الأمر كذلك إلى دخول المعترك الذى اختلف فيه العلماء هل الخلافة ـ بالذات ـ أصل أم لا من أصول الحكم فى الإسلام.
فما دام الإسلام لم يحدد صورة معينة لشكل ونظام الحكم والحكومة، فإن الاجتهاد فى ذلك وارد، شريطة أن يلتزم الحاكم والحكومة بالمبادئ التى نص عليها القرآن الحكيم وعاضدتها السنة الشريفة.
فأى نظام من أنظمة الحكم، مرهون جوازه باتباع المبادئ التى أوجبها الإسلام قرآنًا وسنة.
www. ragai2009.com
[email protected]