لا وصاية لأحد فى دعوة الحق
إن فهمنا الآن للحياة الإسلامية ، ومهما كانت صحة مصادره فى اعتقادنا، متأثر بلا ريب بعقليتنا وظروفنا ومعارفنا وأذواقنا، وبالقيم وطرق التفكير والعوائد الفكرية والاجتماعية السائدة بيننا فى زماننا.
هذا الفهم مع مصادره الإسلامية، هو أيضًا ابن زماننا وأثره علينا وعلى عقولنا وتفكيرنا إلى آخر ما تتطبع به حياتنا مما يصاحبها مما سلف.. بيد أن الأجيال القادمة، بغير انقطاع ما امتدت موجات المستقبل ، لن تعيش ـ أى هذه الأجيال ـ إلاّ فى زماننا الذى سيكون فى المستقبل قد ولّى وأصبح ماضيًا .. وهذه الأجيال المستقبلة لن تعيش حياتها مولّية وجهها نحو الماضى الذى كان قبل وجودها، ولن تحيا ضد حاضرها وما تأمله فى مستقبلها.. وليس معنى هذا مخاصمة الماضى.. فأجيال البشر تتزود مما هو جوهرى للغابرين الماضين، وتأخذ زادها مباشرة من القرآن المجيد والسنة المطهرة .. تأخذه بنفسها هى لنفسها هى وبعقليتها ومعارفها وأفكارها وأذواقها وقيمها هى.. وهذه هى سنة الله خالق كل شىء سبحانه وتعالى يغير ولا يتغير.
يعود أستاذنا محمد عبد الله محمد ليذكِّر بأن دعوة الحق دعوة عالمية من حيث هى دعوة روحية وإنسانية.. وهذه العالمية ليست عالمية دولة أو سلطة أو جهة أو جماعة أو حزب تبتغى فرض سلطانها أو سيطرتها على شعوب الأرض بحجة أن هذا السلطان هو سلطان الله عز وجل. فى السالف وقع غيرنا فى هذا المنزلق فلم يستطع الخروج منه سالما.. لأن هذا المنزلق كثيرًا ما يختلط فيه الميل إلى السيطرة أو الهيمنة ـ بتصور الإيمان بالله ومجد الله وحكمه.. فى هذا المنزلق ـ وهذا درس التاريخ ـ تشتبك الدعوة الدينية مع السلطة الزمنية، وتُؤْخذ الدعوة الدينية فى متاهات المنافسة على الحكم وإدارة الحكم وسياسة الحكم، ثم لا تلبث الدعوة الدينية أن تجد نفسها ورقة من أوراق اللعب على مائدة السياسة.. يقبلها الحاكم أو السياسى ويحرص عليها، أو يلقى بها ويمزقها.. تبعًا لحساب الأرباح والخسائر عنده !!
إن صاحب السلطان السياسى لا ينام إلاّ وهو مطمئن إلى أن كل شىء مهم فى دولته تابع لسلطانه.. حتى الدين والقائمين على الخدمة الدينية.. لذلك فنادرًا إن لم يكن محالاً ـ أن يترك السلطان السياسى لغيره تعيين أو تقديم كبار رجال الدين فى دولته.. وكأنه يريد أن يكون اتجاه النفوس إلى الله مشربًا على الدوام بالاتجاه إلى السلطان ودولته يلتزم بهما ولا يبتعد عنهما!
إن دعوة الحق إذا وضعت فى حسبانها رضاء السلطان ومساعدته، فإنها تدفع حتما أضعاف ما تناله من رضاء!! إن ملاذ الدعوة الأساسى بعد الله عز وجل، هو الإنسان العادى.. الآدمى البسيط غير المهم.. المنتمى لعباد الله الذين لا يطلبون المعالى أو ينشدون الشهرة والجاه والاستعراض!!
هؤلاء الناس البسطاء المستورون هم فى الواقع «نَحْل» الدعوة الذين ينقلون لقاحها وينشرونها دون مقابل ودون انتظار لأى مقابل.. يحملونها مع الخوف عليها فى صمت وتواضع، يحمونها ويحدبون عليها عبر الأجيال والمحن والأزمنة.. بهم تبقى دعوة الحق حيّة فى قلوب الكثرة ولا يمكن أن تموت لغياب قادة أو رؤساء أو لغيبوبتهم. إن صلاة هذا الجمهور: جمهور العاديين المستورين، هى التى تعطى مبنى المسجد صفته وحياته، وتجعل منه بيتا خالصًا لله عز وجل.. حتى وإن كان بانيه لم يقصد ببنائه إلاّ الصيت والسمعة!
إن الطريق إلى الله ليس مقصورًا على هذا أو ذاك من الآدميين.. ويخطئ الآدمى، وهو غير معصوم ـ يخطئ الاتجاه إلى الله حين يتصور أنه هو وحده القادر على رؤية طريق الله.. مثل هذا يتجه دون أن يشعر إلى نفسه، وينكفئ على نفسه ، ويحاول ما وسعه أن يلفت الناس إلى نفسه. إنه عندئذ يحصر ولا يقبل الحصر ، ويسعى لاحتكار ما لا يجوز عليه الاحتكار!
إن كل دكتاتورية تبدأ من بداية مثالية، هكذا ينبه محمد عبد الله محمد، وتأخذ هذه الدكتاتورية شكل الآدمى الذى يحاولها، ومثل هذا يتصور أنه الذى يعرف طريق الله وأنه وحده الذى يفهم أوامر الله ونواهيه، وأنه وحده القادر المؤهل لتفسيرها ولا يجوز ذلك لسواه !!
واللافتة المعتادة لمثل هذا المستبد ـ هى التزام التقشف الذى يعتبره مفتاح استمالة القلوب إليه.. لا مكان عنده للحياة السعيدة ، ولا للمشاركة فيها ، ولا يجوز عنده أن يرفع الآدمى رأسه وينطلق فى العالم الواسع بلا خوف أو بعيدًا عن وصاية هذا المستبد عليه!
يختم محمد عبد الله محمد كتابه الضافى معالم التقريب، بأن الاتجاه إلى الله مزيد من الحرية للروح والعقل تثيره دعوة الحق تبارك وتعالى فتصحو فى الآدمى إنسانيته وتهب وتنشط فيتذكر وقد ذكر ويهتدى ويحسن الاختيار وقد أرشد ونبه. أنه ليس اتجاه قطعان أو أسراب أو حشود من الإمعات الغافلة تدفع إلى حيث يوجهها السائق، إنه ليس اتجاه نفوس تتعالى على الحياة وتحسب أن تعاليها هذا يعطيها أفضلية فى عين الله على الأحياء الحقيقيين العاديين إن الاتجاه إلى الله هو الاتجاه إليه سبحانه وتعالى فى الرضاء بالحياة وقبولها بحقوقها وواجباتها ومواقعاتها بجانبيها الخشن واللين والاعتزاز بها وبشرفها وكرامتها وبمسئولياتها وصعوباتها وأعبائها وامتيازاتها وجميع ما لله عز وجل فيها من آلاء وآيات لا آخر لها.