الإسلام ووحدة الإنسانية
لا تتوارث الأخطاء والخطايا فى نظر الإسلام.. فكل امرئ بما كسب رهين، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وكل إنسان طائره فى عنقه.. والمعنى أن اتصال الحاضر بالماضى قائم فى حياة الإنسان، إزاء ما يصادفه هو من أحداث، ويسلكه هو من سلوك، ويأتيه هو أو يهمله هو من أعمال.. فالذى لا شك فيه، فيما يقول أستاذنا محمد عبد الله محمد فى رائعته معالم التقريب، إن الإنسان يحمل ـ أراد أو أبى ـ نصيبه السار أو المؤلم من ذلك فى حدود تطور فهمه وقدراته.. وهذا يوسع بلا شك من دائرة مسئوليتنا عن أعمالنا كمخلوقات عاقلة مكلفة.. وأعمالنا التى قد لا نبالى بها أو بنتائجها تلاحقنا من قريب أو بعيد، وقد تتجمع نتائجها ونتائج نتائجها فنفاجأ بالمشاكل والأزمات والأمراض والفتن التى تعرض لنا فى حياة كل منا.
والله تبارك وتعالى لا يكلفنا أن نتبصر لجميع العواقب، فإن ذلك فوق قدرتنا وطاقتنا، ولكن الله تعالى يطلب منا الولاء له والاتجاه إليه لكى يوجد فى الدنيا السلام والاستقامة والعدل والمحبة ـ لا يستطيع الآدمى أن يخلص نفسه وحده من نتائج أعماله وأعمال الآخرين، بل لا بد لخلاصه ـ من التعاون والتكافل والتساند بإخلاص وإيمان.. فقوة الشر مرهونة بانتشاره وكثرة المشاركين فيه، وقوة الخير فى انتشاره وكثرة المشاركين فيه.
لا تحتاج روح الإنسان إلى مخلص، لأن الروح ـ فى نظر الإسلام ـ تستطيع أن تغسل نفسها وتجددها.. وأن تستعيد نظافتها بالتوبة.. هذه التوبة التى تغتسل بها الروح، شىء خلاف الكلام وإظهار الأسف وأداء الكفارات.. إنها عودة الإيمان إلى التيقظ والاشتعال فى أعماق الإنسان وفيما بينه وبين ربه..ولذلك فإن التوبة الصادقة تمحو الذنوب، وتجدد وتثرى اتجاه الروح إلى بارئها..
إن النوايا الطيبة لا تنمحى تماما من روح صاحبها مهما تشاغل عنها أو أخفق سعيه فى تحقيقها.. هذه النوايا تعود بقوة إلى الحياة إذا تعرض صاحبها لتأثير مؤثر قوى يستخرجها ويجددها ويحيى اتجاهها إلى مواضع الخير والبر.. كأنها كانت أخواراً جافة دبت فيها الحياة عندما هطل عليها الغيث فامتلأت بالحركة والنشاط.. هذه العزوم الطيبة كامنة ـ وإن خمدت ـ فى أرواح معظم الناس.. وهى أكثر ظهوراً فى العامة لأنهم أسهل اعتقادا وأقل تعرضا للشكوك العميقة.. وهذا الاستعداد يفسر ما تظهره هذه النماذج من إخلاص فى استجابتها للدعوات الدينية وفى إيثارها المصلحة العامة والشجاعة والثبات والبطولة.
الإسلام دين عالمى للعالمين، لا ينحصر فى «المحليات».. لأنه لا يتجه إلاَّ إلى رب العالمين خالق الكون كله وفاطر السموات والأرض، ويعتمد على يقظة الفطرة فى الآدمى وتوجهها نحو الخالق وإسلامها إليه وانقيادها له.
بهذا المعنى كان جميع الرسل مسلمين مصرين على الإسلام، وهم جميعا موضع تصديق وإيمان المسلمين جميعا.. ففى سورة البقرة: «قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (البقرة 136).. وفى سورة آل عمران: «قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (آل عمران 84).
«إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ » (البقرة 131، 132).
«فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ».. (آل عمران 52)..
«رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» (البقرة 128).
يريدنا محمد عبد الله محمد أن ندرك أن وحدة الإنسانية فى الله عز وجل، حقيقة كبرى فى الإسلام.. وأنه لا مجال فى الإسلام للفروق التى تباعد بين الناس على أساس العرق أو الدم أو الثروة أو الحرية أو اللون أو الجنس أو الموطن أو التاريخ.. هذه الفروق فروق باطلة لا مكان لها فى الإسلام.. يحجبها جميعا الولاء لله عز وجل.. هذا الولاء المشترك الذى يلغى الفروق الأرضية ـ يجمع الإنسانية على طريق التقارب والتقريب.