من تراب الطريق (929)

رجائى عطية

9:06 ص, الأثنين, 7 سبتمبر 20

رجائى عطية

رجائى عطية

9:06 ص, الأثنين, 7 سبتمبر 20

اليقظة لله وفى الله

مع كثرة إعلاننا عن الولاء لكتب ومأثورات آبائنا وأسلافنا وأبرارنا رضوان الله عليهم، لا يبدو أننا نفهمها كما فهمها أصحابها الذين سبقونا. الولاء الذى نعلنه؛ فيه كثير من الوهم، لأننا نقرأ أو نتمثل ما كتب أو قيل سلفًا بعقليتنا وأفهامنا نحن، ونكسوا خلال ذلك ألفاظها ومعانيها وعباراتها بمعانى مستمدة من أمثال العبارات والتعبيرات التى لدينا، أى بما يوافق أفكارنا وأذواقنا فى عصرنا.. وهذه عملية تقريب تجرى لدينا دون أن نشعر بها أو نتفطن إلى أننا لا نستعمل فيها إلاَّ مفاهيمنا نحن ومعاييرنا وتصوراتنا للقيم، بما فى ذلك معنى القداسة ذاته.

والذى لاشـك فيه، أن رضـاء النـاس عن دينهم رضاء حقيقى لا رياء ولا نفاق ولا مداهنة فيه، فالقوانين يمكن أن تعيش وتسرى وتنفذ وتفرض بالقسر والإرغام، ولكن الأديان لا تستقر فى حنايا الإنسان إلاَّ بالقبول والرضا والاقتناع.. فرضاء الناس عن دينهم لا يمكن أن يكون إلاًّ بقبول وجدانى وعقلى داخلى، ومن هنا كان هذا الرضاء الحقيقى بالدين ـ من جوانب الإيمان وأمراً ضروريا لحياة الدين فى نفوس الناس.

والقائمون على الدعوات، يحرصون على المحافظة على استدامة رضاء الناس عن دينهم، وهى مهمة لا تخلو من الدقة والمشقة، فليس مقبولا ً تحقيق هذا الرضاء بإخضاع الدين لأهواء الناس، أو بابتذاله ومسخه ليوافق ما يريدون.. وإنما السبيل يكون فى نجاح بعضنا فى أن يثبت بسلوكه وحياته الخاليين من الادعاء والتصنع والتزمت ـ أن الامتزاج بالدين ومعايشته والأنس به ـ شيء قابل للحدوث فى هذا الزمن دون ابتذال أو مسخ.. نفهم ذلك حين ندرك أن الدين حركة روح وكيان، وليس مجرد فصاحة ألفاظ بتحريك اللسان والشفتين.

ربما كان علينا من واقع ذلك، أن ندرك أننا لم ننجح حتى الآن فى تقديم الإسلام تقديما صحيحا مخلصا عميقا الى الشباب، سيما الشباب المتعلم تعليما جاداً عاليا.. يفوت الدعوات أنها لا تصنف نوعيات ومستويات الخطاب، فلا تبذل اهتماما خاصا كافيا للاقتراب من أقناع الشباب المتعلم تعليماً عالياً، اكتفاء فيما يبدو بالتوجه إلى عامة الشباب.. وقد يؤدى ذلك إلى إعراض العقول الشابة القوية المزودة بزاد مهم من العلم والثقافة الحديثين ـ عن الدين.. وهو إعراض خطر.. يحرم الإسلام من العقول القادرة على تحقيق اشتراك الإسلام والمسلمين فى التيار الرئيسى لحياة العصر..

من حق هؤلاء الشباب المتعلمين تعليما جادا ً عاليا، أن يجدوا الى جانب صولة بعض المتعبدين وفصاحة بعض المتكلمين، مكانة واضحة للإخلاص والشجاعة وإنكار الذات.. فبدون ذلك يصعب أن يتركوا ما هم فيه من إعراض أو عدم مبالاة!

ومن الشائع لدى كثيرين منا، الخوف على الدين من العلوم الوضعية الحديثة ، ويخشون على الشباب منها، وهو خوف أحول لم يعد له مكان.. فلا سبيل لصرف العقول عن هذه العلوم، وبدونها لا فرصة لبلاد الإسلام والمسلمين فى اللحاق بركب حضارة العصر.

لا تعارض بين الإسلام، وبين الإخلاص التام للحقيقة، فالإسلام ذاته هو دين الحق والحقيقة، والغاية الأساسية التى يتغياها العلم الوضعى ـ هى أن يقدم للبشرية المزيد من الفهم مع المزيد من الرقى.. المعنوى فى المقام الأول.. فليس هم العلم ولا مقصوده أن يسهل للبشر استبقاء واستدامة نقائصهم والاحتفاظ بميولهم الوحشية والهمجية.. فحين يستخدم العلم وتطبيقاته فى ذلك الاتجاه المدمر، تهب حتما ـ دون أن ندرى ـ رياح الموت!

إن لب الإسلام هو اليقظة لله وفى الله.. والقرآن والسنة لا يتصوران المسلم إلاَّ قلباً ذاكراً لا يغفل عن ذكر الله عز وجل.. إن لغة الدين والنظر ـ لغة ذات ثلاثة أبعاد : طول وعرض وعمق.. وفى العمق ـ ذلك البعد الثالث الذى يميزها عن لغة العلم التطبيقى ولغة الحياة الجارية العادية ـ يكمن مخزونها الهائل الذى لا ينفد من المتعة والجاذبية والطرافة والاستبصار!

لا شك أن الإسلام دين ثرى ثراء ضخما، عاش بحكم هذا الثراء نيفا وأربعة عشر قرنا من التطبيق والتأثير فى جماعات واسعة مختلفة السلالات والعقليات والثقافات والأذواق والظروف، واختزن خلال ذلك خبرات هائلة يمكن أن تجعلنا أكثر وعيا وحكمة ورشاداً فى اختيار ما نواجه به الحياة وما نحاول به حل مشاكلنا، متى صادف هذا المخزون دراسة واعية دقيقة تتجاوز السطحية إلى التعبير البديع عن الإيمان العميق، وتعنى بجذب الشباب المتعلم الذى يفترسه القلق..

يقول أستاذنا محمد عبد الله محمد فى كتابه الرائع «معالم التقريب» ـ يقول إنه ليس بالضرورة أن يكون الذين كتبوا وألفوا هم أفضل آبائنا إسلاما، ولا أن يكون أفضلنا اليوم إسلاما ـ هم الذين يتصدون للتأليف والكتابة.. وليس هؤلاء ولا أولئك أكثر المسلمين معرفة بحقيقة الإسلام وأكثرهم توفيقا فى السباحة فى بحوره.. لأن الإسلام أولا وأخيرا حياة ومكابدة ومعاناة، وليس مجرد كلام قد ينفع الله به أحيانا، وقد يضر به الناس أنفسهم أحيانا أخرى..

إن الكتابة يمكن أن تكون خطرة على الناس حين ينعزل من يكتبون الكلام عن حياة من يعيشون الواقع.. أو حين تتجه الكتابة إلى المجردات والنظريات وتزدرى الواقع المحدود القابل للتناول الفعلى.. وحين تنحو إلى محاولة فلسفة الواقع بعموميات ومصطلحات فضفاضة تلتصق عباراتها وصيغها وشعاراتها بخيال الناس فتغطى على فطنتهم وتفسد فطرتهم!

يغيب فى زماننا عن اقتراحات الإصلاح التى تهبط كالمطر من ملايين المصلحين، أن لب الإسلام هو اليقظة لله وفى الله، فَتُبْعِد فى التركيز على ما هو خارج الإنسان، ولا تتفطن إلى أن الصلاح والإصلاح ينبغى أن يتجه إلى داخل الإنسان!

www. ragai2009.com
[email protected]