الحضارة الحالية
لا تعرف الحضارة الحالية معنى ولا مضمون ولا مغزى النداء الذاكر «الله أكبر».. فهذه الحضارة مادية لا تعترف إلاَّ بإنجازات الإنتاج فى هذا المكان أو ذاك.. وهى تحشد قواها واهتماماتها لتطوير الوسائل وإتقانها وكفايتها وزيادتها باستمرار كفايةً واتقانًا، ولا تهتم بالغايات وتنقيتها وتصفيتها.. لأن ذلك يفتح الأبواب للمطلق ويوجد هدفًا أعلى من الإنجاز والإنتاج، بينما هذا الإنتاج هو كل اهتمـام الحضارة الحالية.
هذه الحضارة الجادة أشد الجد، لا تهتم إذن إلاَّ بالوسائل، ولكنها غير جادة فى تحرى الغايات والتحقق من سلامتها وإنسانيتها.. لذلك صار عالم اليوم أكوامًا هائلةً من الوسائل شديدة الكفاية والعقلانية والذكاء.. ليس له قمة لأنه عالم لا يشعر بغاية كلية خارجه أو فوقه.. ولا يشعر بدافع كلى داخلى يزود هذه الوسائل بالإيقاع والتلاقى والانسجام فى معنى جامع يجمعها ويوحد جهتها إنه فيما يلحظ محمد عبد الله محمدـ عالم من الوسائل تتكدس وتتجاور وتشتبك وتتداخل وتتصارع ويفنى بعضها بعضًا ويعيش بعضها على بعض.. فى حركة هائلة مستمرة لا تنقطع.
يسجل محمد عبد الله محمد أن كلنا إلاَّ من عصم الله ـ صار يكتتب بحياته واعيًا أو غير واعٍ فى هذه الحضارة.. حضارة الوسائل والأسباب.. الحاكم والمحكوم، الغنى والفقير، العالم والجاهل.. الكل إلاَّ من عصم الله ـ ينحنى للأطياف والأشباح والمردة والآلهة الباطلة التى تسود هذه الحضارة.. لا يسلم من تأليه الوسائل والإنجاز والإنتاج والكفاية والفن أو الاقتصاد والتخطيط أو تقسيم العمل أو الآلة أو التمويل أو الحزب أو المذهب أو الزعامة أو الطبقة أو المجتمع أو الدولة.. صار الآدمى اليوم يؤله هذه الأشياء دون أن يشعر، لأنه صار يعطيها قيمة ليس بعدها قيمة.
وفى هذا المعمعان ضاع الإنسان.. لأنه باع نفسه لتلك الأطياف والأشباح والمردة والآلهة الباطلة.. لم يعد طائره فى عنقه، ولم تعد أفعاله وقراراته تنبع من إرادته هو واختياره هو، وإنما هى قرارات تفرضها الأشياء التى من صنع البشر.
إن شدة تعلقنا بالأشياء طردتنا خارج أنفسنا، وجعلت الإنسان يعامل ذاته كما يعامل شيئا أجنبيا عنه.. لا يحترمه كثيرا ولا يؤمن بأن له قيمة كبيرة.. وذلك قد جعل عواطفنا الإنسانية هشة سطحية خالية أو تكاد من العمق والجد.. وصرنا وهذا أخطر الأشياء على مستقبل الإنسانـ صرنا غير قادرين على الإخلاص والوفاء، عاجزين عن الإيمان الذى يحصننا من اليأس والهلع !
إننا لا نكتتب فى الحضارة الحالية بعقولنا وجهودنا وحبنا للقوة فحسب، وإنما نكتتب فيها دون أن نشعر ـ بما هو أغلى وأهم.. نكتتب فيها للأسف بالاستغناء عن الروابط الإنسانية، وبالاستغناء عن الوفاء والمحبة العميقة اللذين يعلو بهما الإنسان على الأشياء جميعًا، ويحتفظ بهامته فوق أمواج التطاحن والصراع المهلك على الأشياء !
لقد صار هذا التعلق شائعًا فى بلاد الإسلام وبين المسلمين، وانعكس ذلك فى تهافت الناس على الانتصار للأشياء إنتاجًا واقتناءً.. مدفوعًا بالإنجازات الضخمة التى تستثير الحماس والإعجاب، ولكن ما يستوقف النظر أن الحماس والإعجابـ لا يوقظان شعورًا جادّا باحترام الإنسان لنفسه وأهميته وقدره.. بل يصاحبهما فى الأغلب شعور طاغ لدى العاديين بالضآلة والصغر!
ربما ساهم فى ذلك أن الحضارة الحالية لم تلتفت لربط ما تنجزه بإرادة الناس، ولم تعن بأن تكون برهانًا على تذكر أهمية وقيمة الإنسان.. كما لم تعرف كيف تستعمل الأشياء وكيف ترسم الحدود لعلاقتنا بها، بل إننا نعاف ذلك ونتحاشاه حتى لا تقيدنا الحدود ويبقى الباب دائما مفتوحا لنكسب من الغموض وانبهام هذه الحدود!
رسالة التقريب التى يبثها محمد عبد الله محمد من خلال هذا الحديث، تتبلور فى أن التقارب حاصل بالحتم والتلقائية بين من علت لديهم القيم والغايات الإنسانية، ولم تستغرقهم عبادة الأشياء وما يتعلق بها من تنافس فى الماديات وغرق فى غريزة الاقتناء التى تقود إلى ما يشبه التطاحن.. يتقارب المسلمون حينما يشملهم ويحوطهم ويتغلغل فى حناياهم النداء الذاكر : الله أكبر.. وحدة التوجه إلى الله تعالى الذى ليس كمثله شىء، وله المثل الأعلى.. هذه الوحدة هى التى تقارب بين أهل المذاهب.. لأنه سبحانه وتعالى أعلى وأجل، عليه جلّ شأنه وإلى قبلته يجتمع المسلمون كافة.. لا يفرقهم مذهب ولا شيعة.. فهم أمام الله مسلمون يسلمون قلوبهم ومقاليدهم إليه سبحانه وتعالى، ذاكرين إياه بربوبيته ووحدانيته وقدرته وغناه وحكمته وكرمه ولطفه.. إن ذكره سبحانه وتعالى هو قبلة الجميع.. «وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ».. وتحت هذه الراية يجتمع كل المسلمين، وتهفو أفئدتهم إلى الواحد الأحد رب العالمين .
www. ragai2009.com