الإسلام والجد والجدية
ينبه أستاذنا محمد عبد الله محمد فى كتابه «معالم التقريب»، إلى أنه ينبغى ألا نتعب من تعريف المسمين بالتقريب، وأنه حركة لجذب التفاتهم إلى الإسلام كأمل جامع شامل يجمعهم كلهم على اختلاف مذاهبهم.. ولتنبيههم إلى أن الإسلام بهذا الشمول يواجه حضارة قوية جدا اكتفى محمد عبد الله بأن يصفها وقت كتابة هذه الفصول بأنها غير إسلامية الجذور، ولكننا صرنا نراها الآن مطوية على عداء دفين للإسلام كشف عن وجهه وجعل يربو ويزداد.. وهذا الموقف العدائى للإسلام لا يجوز الاستخفاف به، فكيف تكون مواجهته ؟
يبدو أن «الجد» هو مفتاح الإجابة عن هذا السؤال.. ومن اللازم أن نلتفت إلى معنى الجد عندنا وعند هذه الحضارة الغير إسلامية.. لأن «الجد» خلفية ضرورية لكل شيء ذى قيمة.
ومن يرقب عصرنا يسمع وصف الجد والجدية يسبغ على كل شيء، حتى الألعاب والرقص والغناء.. وكل ما تتجلى قيه المهارة فى التدبير والإعداد والأداء.. ومن يراقب ذلك يظن أنه لفرط تعلق هذه الحضارة أن كل شيء فيها قد تحول إلى جد أو أنه قد زال فيها الفارق بين الجد والهزل.. حتى باتت هذه الحضارة تعبد المهارة وتصفق حتى للظالم الماهر الذى يغلب بحيلته الضعيف ويقهره!!
ولكن الجد الذى يعنى الإسلام ودعوة التقريب، ليس هو المهارة فى ذاتها، وإنما هو الجد المطلق الذى ليس وراءه جد أعلى منه.. هذا الجد هو شعور الآدمى بأن الحياة شيء جاد جدية لا آخر لها، فالحياة لم تخلق لهوًا ولا لعبًا ولا عبثًا.. وهـذا الجد المطلق ضرورى لكل النواحى العليا فى حياة الإنسان.. فبدونه لا تكون الأخلاق أخلاقا ولا الدين دينا ولا العلم علما ولا الفن فنا.. ولا دعامة لهذا الشعور بالجد المطلق أو بجدية الحياة وأسسها جديةً لا آخر لها ـ إلاَّ الشعور بوجود الحق المطلق تبارك وتعالى.. «قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» (الأنعام 91)..إذ بغيره تكون الحياة لعبًا ولهوًا وزينةً على خلاف مانبه إليه القرآن المجيد.. ورب العزة يقول فيه: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ» (الأنبياء 16، والدخان 38).
بغير هذا الجد يصبح اللازم الأخلاقى واحترامنا له، واللزوم الدينى والتزامنا بأوامره ونواهيه ـ بغير هذا وذاك يصير لزوم الأخلاق والدين لزومًا نسبيًّا يجوز عليه التغير بل والكسر ما دمنا غير واثقين أو غير ملتزمين بجديتهما بصورة مطلقة.
إن اللازم الأخلاقى يستمد قوته من جدية أخذنا إياه مأخذ الجد الذى ليس فوقه جد.. والجدية المطلقة التى نقابل بها اللزومين الأخلاقى والدينى ـ هى وحدها التى تعطى لهما مقامهما الفريد بين القيود والضوابط والمعايير التى تحكم ضمير الإنسان وسلوكه.. وهذه الجدية هى التى تعطى اللزوم الأخلاقى والدينى وحدتهما ودوامهما وأثرهما..
وكما تقوم المقابلة فى الاستعمال اللغوى بين الجد والهزل، تقوم أيضًا ـ أى هذه المقابلة ـ بين الجد والتفاهة.. فتعلق الإنسان بالجد وحرصه عليه، وهو الذى يباعد بينه وبين التفاهة ويرفع قيمته عند نفسه وعند غيره.. وبغير هذا الشعور بالأهمية والقيمة لا يحس الآدمى أن له حقوقا عامة قبل مجتمعه وحكامه، وعند ذلك تضيع الحريات العامة ما دامت التفاهة قد غلبت الجدية!
فالشعور بالجدية المطلقة للزوم الأخلاقى والدينى، هو فى ذات الوقت شعور بأهمية وقيمة الإنسان وروحه، وذلك ضرورى لحماية حقوق الإنسان.. وبغير هذا الجد لا توجد مسئولية، لأن المسئولية هى الجانب الجاد فى الحياة، وما تفرضه من واجبات والتزامات.
والاستعداد للإحساس باللزوم الدينى والأخلاقى وبجديتهما المطلقة شيء فى جبلة الإنسان يفصله عن باقى الأحياء.. وهذا الاستعداد يقوى كغيره ـ مع العناية والمران فى بيئة صحيحة غير عليلة.. ومحتويات هذا اللزوم عندنا كمسلمين ـ مصدرها الأساسى هو القرآن المجيد والسنة المطهرة.. وكلاهما جد محض لا مساغ فيه لغير الجد.. وكلاهما من الله عز وجل.
والمسلم السوى يلاقى نواميس الله عز وجل بالجد المطلق الذى لا يفاضل ولا يفرق بين بعضها وبعض.. بل يرى مخالفة هذا الناموس إثما، فالإسلام لا يغادر إطار الجد، ولا يغرق فيه.. ولا يوجد للإسلام صورة جذابة لذيذة غير مملة، وأخرى عابسة متجهمة.. فالتزام الجد مبدأ جوهرى لا يلتفت لتحقيق لذة أو لتلافى عبوس، وإنما يعبر عن روح الإسلام الذى يلازم المسلم فى ما يفعل حتى فى أوقات الراحة، وفى كل ما يدع.
إن طلب الحقيقة هو الغاية، ولكن الحقيقة التى بوسعنا أن نحققها هى الحقيقة النسبية.. ومع ذلك علينا أن نصر ونصمم على طلبها.. نعم قد يلابس مسيرتنا تداخل بين الصواب والخطأ، وبين الحقيقى والباطل، ولكن الخرافة والضلالة سوف تملآن حياتنا إذا تراضينا أو أهملنا فى طلب الحقيقة كغاية تحتاج إلى البحث عن الصواب والإنصات لصوت الحق. فإذا سألنا أنفسنا بأى مقياس نقيس الحقيقة فى دنيانا، فإن مقياسها هو الوضوح والارتياح.. وفى الحديث النبوى أن الخير ما ترتاح إليه النفس، والإثم ما يحيك فى الصدر ويكره اطلاع الغير عليه ـ فى هذا الحديث ما يقرب إلينا هذا المعنى.
نحن فى هذه الدنيا عطاش دائما إلى الحق، ولا يفارقنا هذا العطش إلى أن نموت، وهذا العطش ليس وهمًا ولا سرابًا، وإنما هو حاجة حقيقية تبحث عن مطلوبها ولا تكف عن هذا البحث عنه !
www. ragai2009.com