من تراب الطريق (866)

من تراب الطريق (866)
رجائى عطية

رجائى عطية

8:56 ص, الأثنين, 1 يونيو 20

والسلطات المدنية هى التى أقرت فى مصر معاملة غير المسلمين فى أحوالهم الشخصية ، طبقا لشريعتهم ، وهو إقرار قديم جدًا ، ومنذ أمد بعيد ، عاودت مصر الدولة التأكيد عليه ، وتدريس مادته فى كليات الحقوق بالجامعات المصرية ، بمناسبة إلغاء المحاكم الشرعية والمجالس الطائفية الموازية التى كانت تفصل فى مسائل غير المسلمين، وأقرت السلطات المصرية لائحة البطريركية للأقباط الأرثوذكس ، وتبعتها لاحقاً بالتصديق على اللائحة الداخلية للمجلس الإنجيلى العام فى مصر ، وتعاملت مصر الدولة ومصر الناس بأغلبيتهم المسلمة ، مع هذا الملف تعاملاً بالغ السماحة والعقلانية ، ولم يعترض المسلمون ولا رجال الدين وشيوخ الأزهر ، ولم يقـل أحـد ـ مثلمـا يقول الإنجليز اليوم ! ـ إن ذلك تجزئة أو ازدواج فى النظام القانونى المصرى العام ، ولم يقل أحد ـ مثلما يقول الإنجليز اليوم ! ـ إن من لا يرتضى تطبيق النظام المصرى العام فى أحواله الشخصية المحكومة عقلا ومنطقا ـ بعقيدته ودينه وشريعته ـ عليه أن يغادر مصر وأن يبحث لنفسه عن مكان آخر يعيش فيه !

من اللافت للنظر فى بريطانيا ، أن التسامح الدينى شع وصدر من رجل دين يشغل منصب رئيس أساقفة كانتربرى ، وأن يضيق ويتصلب ويتعصب أصحاب السلطة المدنية والعلمانيون الذين تصاعدت حملتهم الهستيرية ودخلت فى أبعاد تثير الاحتقان بين الأديان ، وتجاوز فى هستيريتها ما أبداه رجل الدين الذى لم يقل ما يبرر مسارعة رئيس الوزراء البريطانى إلى التشديد على ضرورة تطبيق القانون البريطانى بالاستناد إلى القيم البريطانية ، مع أن رئيس الأساقفة لم يتطرق إلى شىء من ذلك الذى انفعل عليه رئيس الوزراء ومن جرى مجراه ! الفارق فى تقديرى بين سماحة رجل الدين وتعصب الساسة والعلمانيين ، أن الأديان فى أصولها تقوم على التسامح ، ولا تتحدث بلغة المصالح وأهدافها ومآربها. الأمر مختلف فى إطار السياسة والاقتصاد ، فقوامهما ولغتهما المصلحة ، وكثيرا ما تضيق المصلحة بالمبادئ فتعطيها ظهرها وتجافيها ولا تجد بأسًا فى محاربتها ظاهرًا وباطنًا ، إن لم تستطع مواجهتها التفت حولها ! ذات هذه الحقيقة عبر عنها الأزهر الشريف بلسان وكيله فى ترحيبه ببادرة كبير أساقفة كانتربرى وما تعطيه من جو التسامح الدينى وفرص الحوار الموضوعى العقلانى بين الأديان ، وهو موقف ليس غريباً عن هذه الكنيسة التى ألقى رئيس أساقفتها السابق محاضرة من نحو عشر سنوات بالأزهر الشريف شفت عن روح التفاهم والإخاء والتسامح بين الأديان ، بينما نرى تصريحات متحسبة للمسلمين الذين اكتووا هناك فى الغرب بفوبيا الشريعة الإسلامية التى أخذت تحاصرهم بمشاعر وتصرفات عدائية ، فلا تزيد ردود أفعالهم عن التعبير عن الامتنان لاهتمام رئيس أساقفة كانتربرى بالمسلمين فى بريطانيا وقضاياهم ، أو الترحيب الحذر بها وبما تمثله من دعم الاحترام والتسامح بين العقائد والأديان ، بينما يبدو المجلس الإسلامى هناك أكثر حذرًا وحرصًا على إعلان رفضه فكرة قيام نظام قانونى مزدوج فى بريطانيا.. هذا الرفض تبدو فيه لغة السياسة ، لأن صاحب الاقتراح نفسه لم يدع إلى نظام قانونى مزدوج فى بريطانيا ، وإنما دعا فقط إلى معاملة المسلمين هناك بمقتضى إجراءات شريعتهم فيما يتعلق بأحوالهم المدنية مثل قضايا الزواج والطلاق أو المسائل المالية .

هذا الانفعال البريطانى يفارق العقل والمنطق ، فالعالم كله شرقا وغربا يقر بأن ما اتصل بالأحوال الشخصية من زواج وطلاق وميراث ووصية وغيره ، مستمد لدى معظم الخلق من شرائع عقائدهم ، ولا تزال تعقد فى الغرب ، وفى بريطانيا ، زيجات كنسية يفضلها المتدينون هناك علـى الزواج المدنى ، فلا ينفعل المسئولـون ، ولا يهتاج العلمانيون ، ولا يدعى أحد أن هذا ازدواج يأباه النظام البريطانى ، إقراراً بحقيقة تعلو العلمانية وتقرها الأديان كل للآخر ، بأن ما اتصل بحالة الإنسان المدنية الشخصية ، نابع من عقيدته ، لا يملك أحد ـ بذات منطق العلمانية وإقرارها للحريـة ـ أن يصادر عليه ، متروك لـه ـ دون سواه ـ أن يختار المدنى أو الكنسى. أما الاحتجاج بأن المسلمين أقلية فى بلاد الإنجليز ، فهو احتجاج يناقض كل ما يدعـو إليه الغرب ويدافع به عن حقوق الأقليات. لا يملك من يتابع المشهد الإنجليزى إلاّ أن يرفع القبعة احتراما لرجل الدين ومنطقه ، وأن يدهش ويتولاه العجب من علمانية تدعى الحرية واحترام حقوق الإنسان ، بينما تضبط متلبسة بتصلب وتعصب ضرير يملأون الدنيا صياحا بالكذب بأنه حال المسلمين !

www. ragai2009.com

[email protected]