حينما تولى فاروق العرش ــ فيما يبسط المراغى ــ وجد أن حكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس هى التى تحكم ــ ولم تكن حكومة الوفد فى عهد والده الملك فؤاد على علاقة طيبة مع القصر ابتداء من حكومة سعد زغلول وانتهاء بحكومة النحاس. وقد قيل إن الملك فؤاد لما ضاق ذرعًا بسعد زغلول دبر مؤامرة اغتيال حاكم السودان الانجليزى السير ستاك ليحمل سعد زغلول مسؤولية الحادث. ونجح فى مسعاه، إذ قدَّم الجنرال اللنبى المندوب السامى البريطانى فى مصر إنذاره المشهور إلى حكومة سعد زغلول فرفضها الأخير واستقال. وكان مرد التصادم بين القصر والوفد أن الملك فؤاد يريد أن يملك ويحكم. والوفد يريده طبقًا للدستور أن يملك ولا يحكم .
السياسة المصرية وفاروق
وجاء فاروق إلى الحكم ولم يكن يفهم شيئًا عن الدستور أو السياسة . إذ لم يكن قد بلغ الثامنة عشرة من عمره بعد. وكان تعليمه سطحيًا جدًا ومستواه لا يزيد عن مستوى طالب فى السنة الأولى الثانوية. وقالت له حاشية القصر وأمه معهم إن الوفد كان عدوًا لوالدك، ويجب عليك إذا أرادت أن تكون ملكًا قويًا أن تضرب الوفد فى الوقت المناسب وتبعده عن الحكم ليصبح غير قادر على ضربك. وكان مستشاراه اثنين : أحمد حسنين وعلى ماهر. وكلا الاثنين لهما مطامع فى الحكم. والأول أقرب إلى فاروق من على ماهر لأنه كان مرافقه فى انجلترا. وكان يحقق نزوات فاروق وأهواءه. أما الثانى، فكان سياسيًا مخضرمًا لا شك فى وطنيته. ولكن كان يحب التسلط والحكم. ولا يستريح إلاَّ إذا أصبح رئيسًا للوزراء.
وكان رئيس الوفد مصطفى النحاس يجىء إلى الحكم فى كل مرة تجرى فيها انتخابات حرة بأغلبية كبيرة. ومعنى ذلك أن النحاس سيبقى رئيسًا للحكومة ما دام هناك دستور. فكيف يبعد على ماهر النحاس عن رئاسة الحكومة ؟ ليس من سبيل إلاَّ أن يوغر صدر الملك عليه. وتفتق ذهنه عن حيلة ماكرة .
ذهب على ماهر إلى ولى العهد الأمير محمد على وقال : ياسمو الأمير. عندى فكرة أقترحها عليك وأرجو أن تتقدم بها باسمك الى رئيس الحكومة.
كانت الفكرة تتعلق بحفل تنصيب الملك، وهى قصة يتفق عليها وإن إختلفت تفاصيلها بين مرتضى المراغى، وبين محمد التابعى فى مذكراته وعبد الرحمن الرافعى وباقى المصادر. فى رواية المراغى أن ما أوعزه على ماهر إلى الأمير محمد على أن يقوم شيخ الأزهر فى حفل رسمى كبير لتنصيب الملك ــ بوضع التاج على رأسه كما كان يفعل بابا الفاتيكان مع ملوك الكاثوليك وكما يفعل الآن أسقف كانتربرى مع ملك إنجلترا.
وتزيد قصة التابعى والرافعى على ذلك، أن يتم تسليم فاروق فى حفل التنصيب سيف جده محمد على، ويسلمه إياه شيخ الأزهر.
وتختلف الروايات فى كيفية وتفاصيل تناهى خبر هذا الاقتراح إلى مصطفى النحاس، وتتفق الروايات على غضب وهياج مصطفى النحاس من إدخال الدين فى السياسة، وهذا واضح فى رواية التابعى والرافعى ومن بعدها الدكتور رفعت السعيد.
وفى رواية المراغى أن النحاس أبدى أن هذا الإقتراح غير دستورى، وأن الملك يتسلم سلطاته من الحكومة والبرلمان، وأن معنى الإقتراح الذى رفضه بشده أن يتسلم الملك سلطاته من شيخ الأزهر.
وانتهت الازمة بالعدول عن الفكرة. ولكن على ماهر نجح فى أن يوغر صدر الملك ضد النحاس. وتربص الملك بالنحاس حتى تمكن من إقالته بخطاب اتهم فيه النحاس بسوء الحكم. وهو خطاب إقالة لا سابقة مماثلة فى الدول الملكية الدستورية .
وجاءت الإقالة سهلة فيما يضيف مرتضى المراغى. فلم يقم الشعب بمظاهرات احتجاج. ولم تشهد مصر حادثًا واحدًا من حوادث العنف. وفتح الطريق سهلاً أمام الملك فاروق ليمارس لعبة الإقالة والعزل مع كل الساسة المصريين بمختلف أحزابهم. ونصحه مستشاروه بأن يضع يده على الجيش حتى يكون درعًا يقيه من الشعب إذا فكر يومًا فى الثورة عليه. وأخذت أجهزة القصر تعمل لاختيار قادة الجيش من الذين عرف عنهم الولاء والإخلاص للملك فؤاد ومن عرف عنهم أيضًا الجهل. لأن الجاهل يسهل التحكم فيه ويقبل الانصياع والطاعة أكثر من المتعلم الذى يفكر. وبدأت حاشية القصر تلوح لرجال السياسة فى مصر بسوط الجيش.
وكما قمع إسماعيل صدقى رئيس الحكومة فى عهد الملك فؤاد سنة 1930 ثورة العمال باستخدام الجيش، فقد استطاع النقراشي رئيس الوزارة فى سنة 1947 بأمر من الملك فاروق القائد الأعلى للجيش، أن يقمع تمرد قوات البوليس. وألف الملك فاروق الحرس الحديدى. فخاف رجال السياسة على أرواحهم هذه المرة بعد أن كانوا يخافون على مناصبهم. وزاد الطين بلة شدة أطماع الساسة وحبهم للمنصب، لأن منصب الوزارة كان مغريًا جدًا للنفوذ الواسع الذى يتمتع به الوزير. وكان لزوجات المرشحين للوزارة دور كبير فى إذكاء وقود المطامع لدى أزواجهم، لأن الزوجة تصبح مقصد ذوى الحاجات ويعمر بيتها بهم ويقدم إليها الاحترام والتبجيل. وحين يعزل زوجها من الوزارة يخلو البيت من الزوار.
www. ragai2009.com