الكثرة الكاثرة منا نحن الآدميين ما زالت إلى اليوم والغد جاهلة ــ جهلاً يكاد يكون تامًا.. عالمة أو مدعية أو ضالة جاهلة.. غنية كانت هذه الكثرة أو فقيرة.. متحضرة أو غير متحضرة.. فقيرة راضية أو غير راضية ــ لا يميز البشرية بعضها عن بعض أى تمييز حقيقى فعلى يفصل فصلاً لا يزول ولا يتداخل قط من الميلاد إلى النهاية.. إذ لم يوجد بعد ــ إلاَّ نادر النادرــ فارق حقيقى إنسانى دائم فى نوعه ـــ يفصل حتمًا بين العاقل وغير العاقل.. وبين الخير الفعلى الصرف، والتائه غير الخير غباءً أو مكرًا أو هما معًا.. كما فى الزائف المنافق الدائم التقلب والتحول.. هذا الزائف لا يغطيه طويلاً اعتياده على اللسانة أو الليونة أو السهولة أو التلطف أو بعضها معًا.. مثل هذا لا يعرف قيمة لأى آدمى إلاَّ نادر النادر.. فى أعماقه وأغواره تلال من الأنانية والقسوة والغرور وقلة المبالاة، شديد السطحية ضئيل الالتفات والعناية ـــ لا تمس أعماقه وأغواره إلاَّ تلك الأنانية التى لم تجف بل زادت وعلت، فيما يرجو العقلاء المخلصون أن تتناقص على الدوام كى لا تهلك البشرية كلها فى يوم أو ليلة لا يحسب الحاسبون الهالكون حسابها !
ونحن جميعًا الآن لا نكف عن بعثرة الحياة البشرية ـ متصورين أننا حافظون لها بكثرة ما نتداوله ونبيعه ونشتريه ونؤجره ونستأجره ونحفظه ونقتنيه وندخره ونراه ونقرؤه وننتقل إليه ونسهر عليه.. نتصور أننا بذلك نزيد على من سبقونا ــ فهمًا وخصوبةً وارتفاعًا.. وهذه أغلبها أضغاث أمانٍ وقتية سريعة الذهاب.. أسرع فى زوالها ليحل محلها متطلعات لا تلبث هى الأخرى حتى تختفى ويحل محلها جديد يصبح متروكًا بعد قليل.. يحدث ذلك على الدوام حيث تتوالى بغير انقطاع نوبات الكساد والغلاء والأزمات والديون والشدائد.. يحترق بنارها أغلب الناس فى كل جماعة بالبطالة التى تصيب أغلبهم فى الأرزاق والأسر، وينتهزها الخبثاء الذين لا تخلو منهم جماعة بمكرهم وطمعهم وجشعهم بغرض الكسب من المصائب والنكبات والمجاعات والأزمات !
فمع دوام إحساس البشرية بالخير والشر، ومع توالى الزيادة والقحط، والرخاء والضيق فى حياتهم ـــ باتت السيطرة والسطوة تظهر وتختفى لتظهر ـــ ولا تنعدم قط.. حيلتها الدائمة ضمن آلاف الحيل الأخرى.. استجلاب كثرة الناس وإخضاعها بشتى الأساليب لتقودها القلة وتستغلها نزولاً وانحدارًا إلى الهلاك أو ما يشبه الهلاك لهذه الكثرة أو تلك.. واليوم باتت فى كل مكان على الأرض تقريبًا ـــ سيطرة وسطوة قلة تدعى القدرة والقوة ـــ يقابلها شعب أو أغلبية شعب بلا أى ولاء حقيقى عاقل معقول، بل بشك أو كره أو ضيق أو سخط أو مقت أو عداوة أو بخليط من ذلك كله.. وقد يتخذ شكل التمرد الظاهر العلنى أو الثورة أو الحرب هنا أو هناك.
ربما بات من المستحيل أن يستمر هذا استمراره السابق دون أن يتعرض البشر كله أو أغلبيته لهلاك لم يحدث لهم من قبل.. لسبيل لتجاوز ما صار الناس إليه، إلاّ إذا انطلق واتسع دور المهديين المخلصين الأيقاظ، وتركت الكثرة ما هى عليه من اعتزاز كل منهم بأنانيته مع شدة تعلقه بما عرفه أو اعتقد أنه عرفه من العلم، وقاوم كل منهم حرصه على مكانته مما يعتقد أنه يعرفه وسعيه بمقامه أو بنفوذه إلى الإشادة به فى المحافل والاعتزاز بمنحها المالية، والانخراط فى كبار الهيئات العلمية والحكومات وأكابر الشركات فى وطنه وغير وطنه.. هذه الإشادات التى أدت بأنواعها المتزايدة خلال القرون الثلاثة الميلادية الأخيرة إلى زعامات ورئاسات وألقاب وانتصارات وانهزامات وتكرمات وانتفاعات وثروات ونكبات ثم زوال إلى زوال إلى أعماق النسيان!.. حيث لا مجد ولا مال ولا نفوذ، وحيث يحتمل من انفض عنه السامر ما لا يُحتمل ويقاسى ما لا قبل له به.. فيستعجل الخلاص مما لابد من خلاصه منه كائنا ما كان ومن كان ـــ اللهم إلاّ من عرفوا نعمة العقل، وأنزلوه منزلته الواجبة فى فهمهم ومعرفتهم وسلوكهم وأعمالهم، ففازوا بما لا نفاد له، وهو نعمة الإيمان والرضا والتسليم والفهم.
www. ragai2009.com
[email protected]