وجماعات الآدميين من قديم الزمن حتى الآن، إما حكام أو محكومون منفصلون، وإما حكام ومحكومون معًا، فضلاً عن جيش المحكومين فقط .. هذا فيما عدا الأسرة التى هى فى كفالة أو رعاية أو قيادة رجلها فى الأغلب الأعم .. فقيرًا كان أو غنيًا .. يقود عادة الزوجة والأولاد ومن فى حكمهم إلى أن ينفصلوا بحكم الشبوب عن الطوق أو إتمام التعليم أو الزواج أو الاستقلال بالعمل وبالحياة.
كان العبيد ذكورًا وإناثًا، فى سيادة سادتهم العمر كله إلى أن يحرر السيد عبده أو تحرر السيدة عبدها.. وقد اختفى الآن تقريبًا وجود العبيد لتحريم العبودية .. ولكن بقى وزاد وطغى ـــ نتيجة الفاقة وتوابعها ـــ سيل الصعاليك من الجنسين والأوباش والساقطين والساقطات .. نرى ذلك تقريبًا فى كل جماعة .. ولم تجن الجماعات البشرية شيئًا يذكر من تحريم العبودية .. فالآدميون حتى اليوم أسرى عبودية من أنواع أخرى .. فهم لا يختارون لحاضرهم أو لمستقبلهم إلاَّ اختيارات براقة سطحية .. يظنون لأول وهلة أنها غاية فى النفع والجدوى وأنها سوف تدخلهم وتدخل البشرية فى عالم لامع خيّر جدًّا لن ينقضى خيره وفضله على الإنسانية قط .. وقد تكررت هذه المحاولات مرات عديدة كما رأينا فى القرن الماضى، لتنتهى إما بحروب عالمية هائلة لا يفلت من آثارها المخربة إلاّ نادر النادر، وإما بانتكاسات تشتعل هنا وهناكى، وأزمات ونكبات بدأت باندفاعات ثم بحشود ثم تضحيات.. ثم بإخفاق هائل لعجز الدول الكبرى عن القيام بما أعلنت قدرتها واستعدادها القيام عليه، وحلت أخرى غيرها محلها مع رجاء احتمال التصحيح وتلطيف بلايا الامتهانات والخيانات والقصورات وانعدام الأمانات والمروءات وفقدان الإحساس بجسامة الواجبات العامة.. هذه الواجبات الجوهرية التى لا يصح قط أن يهمل رئيس واع أو ينى عن السهر عليها مادام مكلفًا بالمحافظة عليها وصيانتها .. لأنه لا يخدم ذاته فى رئاسته بل يخدم رئاسته بمهامها وأعبائها .. يخدمها ويجب أن ينهض على ذلك ابتداءً واستمرارًا وانتهاءً بعيدًا عن الأنانية والجشع والانتهاز والتدليس .. للأسف فقد بات الطمع من سنين غير قليلة وصفًا واقعًا سائغًا مشروعًا لأكابر القوم فى كل مجتمع، وصار تحقيق هذا المطمع هدفًا ممكنًا لكل ذكى عاقل مجرب حسب كده واستخلاصه .. دون أن يكلف خاطره أو يضيع همه ووقته فى البحث عن الحرام والحلال الذى لم يعد أحد يعنى بهما، ما دام مقصوده هو الوصول إلى بغيته كلما سنحت له الفرصة لبلوغها وعدم إفلاتها من يده حسب منطق العصر ومنطقه الذى برره لنفسه وارتضاه ! .. دنيانا صارت كما نراها، ونعاملها وتعاملنا.. لم يزد سعى الناس فيها عن كونه رؤى وقتية .. سريعة من عقول مشتاقة إلى تحقق الظن والخيال أكثر بكثير من عمق عقولها .. انحازت إليها ومنذ البدايات أفكار الجمهور الساذج الذى صدق دون فحص ـــ ما لقنه إليه المروجون اقتناعًا وطمعًا وانتظارًا لكسب قريب!
والآدميون غارقون حتى اليوم فى التعلق بالعلاقات والصلات ويحسنون الظن بالقرابة أو الجيرة أو النسب أو الخدمة أو طول الاستخدام .. وهذا التعلق لا يزال يشمل أغنياءهم وفقراءهم وكبارهم وصغارهم ومعلميهم وأمييهم وأعلامهم وأذنابهم وذكورهم وإناثهم .. وهو ظن فيه من التأويل والاتكال ما فيه منذ أن عرف البشر الانتشار والانتقال وبلغت الأنانية بهم ما بلغت، وعرف الصغير والكبير عجز الشيخوخة المالكة العاضة بنواجذها على ما تملكه، وعرفوا عراك الأقرباء والأصهار ـــ على ما تركه الميت من بعده.. إذ كل آدمى يمسك ويعض بناجذيه على ما أتاه، ولا يترك فرصة لنفسه لنجاح يحققه بعمله فى الحياة .. علمًا بأنه إن امتد عمره وأفاق لمن حوله ولزوال ما كان يظنه غناءً وثراءً.. مما يتجاذبه الأقوياء المحيطون به.. سوف يرى طلائع إفلاسه الشامل الكامل لفاقة الدنيا وموت الحب.. وسيلمح فى عيون أخرى ترقب وانتظار انتقال ما كان يكسبه من أموال إلى غيره الذى قد يكون أقرب وأكثر تعلقًا بها وأقدر على الاستمتاع الممكن منها.. وهذا يكاد يكون هو هو ظن الحىّ بالميت الذى مات أو أسرعت خطاه إلى الموت الذى به يفقد ما كان معه من الحياة والمعرفة النافعة والعقل .. فضلاً عن فقد الأنا إلى غير رجعة فى الدنيا!
ونسيان حصول الموت، وهو طبيعى غير مستغرب للآدمى الصحيح فى صباه وشبابه ورجولته وكهولته.. هذا النسيان غير مستغرب لقوة وتدفق الحياة لديه برغم أن حياته عرضة بقدر أو بآخر للمخاطر والتراجع، ولكن هذه كلها لا تدخل فى حساب الآدمى المألوف المعتاد فى سير حياته السليمة .. ولذا وجدت بيوت الآدميين فى القرى والعمارات والقصور فى المدن، كما وجدت فى الطرقات والسكك الحديدية والسيارات ووسائل النقل الأخرى .. تحلق الطائرات نهارًا وليلاً ولا تكف السفن والمراكب عن تجوالها فى البحار والأنهار والبحيرات بأحمالها وركابها المهيأة للنزول أو المعدة للسفر.. هذه الحركة الدائبة دون توقف نهارًا وليلاً فى كل ميناء وسوق ومرفأ ومحطة ومطار ومرسى وميدان، هى فى الغالب الأغلب حركة انطلاقية اندفاعية لا يضبطها حتمًا وصدقًا أمن أو قانون .. اعتادها ويعتادها وسيعتادها كل من له مصلحة أو شأن أو خدمة أو عمل أو فرصة أو مكر أو حيلة برغم وجود عناصر الضبط والربط والسلطة والشرطة .. فهذه لم تملك ولا تملك السيطرة الكاملة فى أى زمن أو مكان على النظام العام .. وسطوتها وسيطرتها مهما كانت نسبية محدودة .. قد تخيف أو لا تخيف وتقبض أو لا تقبض على الشقى إن عرفته وطالت يدها إليه.
www. ragai2009.com