سلك مركز توثيق التراث فى تعبئة هذا التراث بالمجلد: «النوبة عبر عصرين»، ومستقبلا على موقعه على الإنترنت ـ سلك أصوب وأشمل الوسائل فى نقل مشاهد شبه حية من هذا التراث إلى المتلقين، بأن اعتمد فى هذا التوثيق على «الصور الفوتوغرافية»، مشفوعة بالشرح والتعليق والتحليل، لتتعانق الصورة مع البيان فى تجسيد البعد الزمانى والبعد المكانى وإمدادهما بمضامين الصور التى تصور البطولات والرحلات والفنون على جدران المعابد.
وللنوبيين لغة قديمة جدًا، وبعض كلماتها المتداولة الآن توحى بأنها الكلمات ذاتها التى كان يستخدمها بناة معبد أبو سمبل قبل ثلاثة آلاف سنة، وفيها إيماءات لمنازل الشمس فى واجهة المعبد.. ومع المعابد والمساجد والبيوت والمصاطب، تطوف كاميرا أنطون ألبير لتنقل رسومات الحيوانات وأساطيرها على الجدران وهندسة المبانى النوبية، ومصاطب البيوت ومظلاتها الجانبية، ومساجد ومآذن القرى وما فيها من رسوم ونقوش، وحفلات العرس وما تعبر عنه الرسوم المنقوشة عنها، ومعلقات الأسقف و«الشعاليق» التى كانت تستخدم فى حفظ بعض الأطعمة.. ومن على الجدران الخارجية التقطت الكاميرا صور محنطات التماسيح التى كان النوبيون يتفاخرون بصيدها وتحنيطها وبإجادتهم رمى السهام بوصفهم أحفاد رماة الحدق.
أما آلة الطنبور التى التقطتها عدسة الفنان المصور أنطون ألبير، فهى أقدم آلة موسيقية عرفها النوبيون، ويقال إن منشأها كان فى النوبة، وهى آلة وترية خماسية الأوتار، قد يزيدها بعض العازفين أحيانا.
وفى النوبة يبدو أثر النيل كما بدا بطول الوادى.. اعتمد عليه النوبى كمصدر رئيسى للمياه تعوضه الآبار حين يغيض أو فى سنوات القحط أو الجفاف.. يجرى التعامل مع هذه الآبار بروافع خاصة من البكر الخشبى والحبال التى صورت عدسة الفنان كيف تستعين بها المرأة النوبية فى رفع المياه.
لم يفت العدسة اللاقطة، تصوير أسمار النوبيين فى البيوت والمقاهى، وطبيعة الحياة المدرسية وفصولـها وأزيائها، وأنشطة الفنون والأشغال المدرسية.
فى الصور الملتقطة، قوافل الجمال التى كانت بالنسبة للنوبة مثل طيور البولشون المهاجرة، ولكن فى رحلات من الجنوب إلى الشمال فقط، ومع أن الجمل هو ملك أو سفينة الصحراء، إلاّ أن النوبيين كانوا يميلون أكثر إلى الانتقال النيلى بالمراكب الشراعية أو البخارية، وظل النيل المرفأ الحاضر فى حياة القرية النوبية على شاطئ النيل، وكما غنى له سكان الوادى بطول مصر، تغنى به النوبيون وتفاءل به المحبون واتجهت إليه أنظار العاشقين.
ظل هذا هو المشهد الحاضر حتى أتت مناسيب المياه للخزان ثم السد العالى بما ألجأ سكان النوبة إلى الهجرة ومفارقة البيوت التى بدت فى الصور كالأطلال، منزوعة الأبواب والنوافذ.. صورتها عدسة الفنان أنطون ألبير، وصاغتها كلمات الشاعر عبد الدايم طه:
أفواه الدور مفغورة: تصرخ فى ظهرى مبهورة
تصرخ ولكن مـات الصـوت علـى العتبـات
«عـودوا.. عودوا»: «ماذا يحدث عند المرفأ».
مع العدسة ولقطاتها والمجلد وإيضاحاته، لا تنفد المشاهد والصور، هذا العمل الجليل مضاف إلى أعمال جليلة أخرى، تصدى لحفظها مركز توثيق التراث ومكتبة الإسكندرية ـ شاهد حى على النوبة بحياتها وتقالـيدها وتراثها، قيمة هذا العمل أنه كفل حفظ تراث النوبة الحضارى والطبيعى قبل أن تغمر المياه جانبا كبيرًا منه، وليبقى حيًّا بصوره فى ذاكرة التاريخ، فضلا عن حياته مع النوبيين الذين وإن هاجروا إلى الشمال، إلاّ أنهـم ذهبـوا بكل تراثهم وعاداتهم وتقاليدهم إلى بقعة أخرى على ذات ضفاف النيل فى قلب الوطن.
www. ragai2009.com
[email protected]