فى زماننا هذا قد أحَسَّ الجميع غنيًا وفقيرًا ـ حاكما ومحكوما ـ بقلة الأمان عن الذين سبقونا فى كل مكان.. وتراخى ما معنا وتزايد تراخيه باستمرار.. وقد أزعجنا كلنا الآن قلق غير مسبوق أصاب كلاً منا بهمومه المتزايدة.. وقد زاد الدين أى دين، زاد ابتعادًا عن اهتمامنا فى جميع الأماكن بلا استثناء.. إذ تربعت الأنا مصحوبة بالأنانية لدى الأفراد والجماعات كلها، برغم بقاء الفروق وباتجاهاتها المتباينة !
فالآدميون جميعًا على هذه الأرض هم الآن خلاف السابقين الماضين، حتى فى بداية النصف الثانى من القرن قبل الماضى.. قد امتلئوا بالآمال الواسعة مبتهجين مستبشرين عامتهم قبل خاصتهم.. ولكنهم فوجئوا بصواعق متتالية من الكساد الهائل المطرد والخيبة لديهم بيأسها المروع الذى طال واستطال والبطالة الغالبة المزمنة التى لم ينج منها بلد حتى الآن ! وقد حلت الآلات الجديدة التى لا تنقطع ابتكاراتها وتطوراتها ـ حلت محل أغلب البشر المتعطلة والتى زاد تعطلها من سنوات. وهو ما كان يقتضى من العقلاء غير الجشعين، الإصرار على حفظ التناسب وتحقيق التوافق المطرد بين الآلات وبين العاملين فيها أو معها.. بحيث لا تزيد تلك الآلات زيادة تلغى دور العمال الذى ترجم تقلصه عن بطالة عمت الدنيا فى كل مكان !
وربما يكون قد فات اليوم على الآدميين علاج دائهم الناجم عن المبالغة فى الازدحام والارتباك والاضطراب والتحطيم والعجز واليأس.. وهو ما أضعف كثيرا جدا اقتدار الأقوياء وشاط وهيج وأثار العوام فى كل اتجاه.. فهل يمكن لعقلاء الالتفات الواعى المتزايد باستمرار فى الفهم والإدراك والاشتراك النامى بغير حدود مع شمسنا وكواكبها وتوابعها وطاقاتها وموادها وأجوائها وحركاتها الدائمة بأبعادها التى لا أول لها ولا آخر قربا أو بعدا عن أرضنا؟
من غير المعقول لدى البشر وما يعانونه فى كثرتهم الكاثرة ــ من مجاعة واختناقات ــ أن ينصرفوا إلى إفناء بعضهم بعضا كما حدث من قبل مرات كثيرة فى مذابح آدميين سابقين قريبين وبعيدين تبعا لأوامر ملوك وأمراء وقادة وطاعة لأتباع وضباط وجنود !.. فالقسوة الغاشمة السابقة حديثة وقديمة، لم تعد ممكنة فيما يقبله العقلاء !
حتى الآن لم تعترف أى أمة فى قديمها ووسطها وجديدها وحاضرها من البشر ــ لم تعترف بالضرورة التى لا يستغنى عنها عاقل للقيام الجاد الدائم بكيان الأمة بما لايقل قط عن غالبية أهلها الموجودة حتما فى كل جيل، وإلاّ كانت دائماً وأبداً عرضة للتمزق أو التفكك أو الفناء.. وهذا قد حصل من قبل آلاف المرات.. بل وحصل مرات فى أيامنا فى أفريقيا وآسيا وشرق أوروبا وأمريكا الوسطى. ناهيك بما استولت عليه بريطانيا وفرنسا فى القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر.. ومع أن الدولتين قد صارتا بما استولتا عليه أغنى وأقوى دول العالم تضخماً وتسلطا، إلاّ أن عالمهما قد صار برغم الغنى والقوى المادية، مليئا بملايين الفقراء والساقطين بما لا أول ولا آخر من التناقض هنا والتفكك هناك !!
وبعد الكثير من السنين، لم تنجح هذه الدول حتى اليوم والغد فى تكوين أساس ثابت ومجتمع عامل.. مجتمع يعرف بنصفة وانضباط بلا أنانية، حفظ قيمة ما معه وتقدير قيمة ما عليه وأدائه لها وللناس.. فالأنانية ناشبة ولا شك فى كل من سبقونا فى كل زمن ماض، وناشبة فى كل منا ومن معنا الآن ممن نعرفهم أو لا نعرفهم.. لكن الأنانية تختلف من جنس لجنس ذكورةً وأنوثةً وسحنةً ونوعًا وطبعًا ــ وزمنا ومكانا.. ومن شخص معين لشخص غيره.. وتختلف مع اختلاف الأعمار والأجيال فى الأحياء من الآدميين أينما وجدوا، وهو اختلاط مركب قديم هائل جدًا دائم حتى الآن !
فهل يمكن مع بقاء البشرية، تغيير مسار أنانيتها الجامحة مع المحافظة على وجود الأنا لديها ؟.. إن الأنانية تبدأ مع الطفل منذ ميلاده يصدر عنها بين ذويه ولا يرى عندئذ غيرها.. ومع وجود العقل الرشيد لدى الأبوين أو لدى الأم تخف أنانية الصبى تدريجيا فى حينها إلى أن يبدو الاحتفال بالعقل والرشد فى حينه بقدر زمنه ومحيطه، ومع ذلك تدل الشواهد على أن الآدمى لم يستطع قط أن يتخلص من أنانيته التى باتت ظاهرة فى الطبع وفى السلوك وفى التصرفات !
ويبدو أن انصراف ذكاء الآدميين فى غرب أوروبا فى القرون الخمسة الأخيرة إلى الالتفات لذكائهم الدنيوى المتعرج الدائم الخلط بين الصواب وضده، يبدو أنه قد قاد الأمور إلى ما صارت إليه الآن.. حيث وصلنا اليوم إلى حجم البشرية المزعج الذى لابد له من علاج جاد عاقل يرده إلى الرشد البعيد عن الأنانية تمامًا ونهائيًا.. وبعيد خاصة عن الإغراق الكلى فى الجرى وراء الثراء الفاحش فى عصره.. وهى ظاهرة لم ولا تتوقف على عصر دون عصر، لأن عصور الآدميين لا تتجمد قط !!
www. ragai2009.com