من المحال أن نفهم نفس الشىء بنفس الوضع مع تغير الحال والظرف والوقت.. ففهمنا الذى نتخيل استقراره وثباته ونفتخر بمحافظتنا عليه، يجرى عليه التحول والتغير والزيادة والنقص والإضافة والحذف.. يحدث ذلك برغم أن الذاكرة تجتهد فى تقييد ذلك وتعويقه لتقوم بدورها فى استدامة الذات والمحافظة على وعى الآدمى وشعوره الذى لا ينقطع بأنه وعيه هو طوال وجوده حيًا.
والآدمى قد يسعى عامدا إلى زيادة فهمه لما حوله بالرغبة الذاتية فى توسيع الإدراك والمعرفة أو بالرغبة القوية فى انقاذ نفسه من وضع يراه بلاء وشقاء وعناء أو بالاشتهاء العنيف فى مثل ما يظن الآخرون أنهم قد فازوا به.. كما قد يقعد عن ذلك ـ كما يفعل أغلب الخلق ــ لقلة الدوافع والمواهب أو بسبب الاعتياد المبكر على الابتعاد عما يجهد أو ينطوى على تعب أو مجازفة، أو بسبب التعود على استطابة الخمول وعدم المقاومة والخوف من رد الفعل وقبول ما يجىء به يومه أيا كان، أو بالرضاء بأية لحظة يحياها تحت أى وصف.
هذه الأصناف من البشر توجد بنسب متفاوتة فى الذكور والإناث حسب الأجناس والأعمار والبيئات والحضارات، ومع غلبة الغفلة فى الطفولة والشيخوخة وظهور الحدة فى المراهقة والشباب وخمودها فى الكهولة. لكن دائما فى كل جماعة بشرية تجد نسبة الذين يقدرون الفهم ويسعون إليه جهدهم قلة قليلة بالنسبة للأغلبية الغالبة من الذين يدعونه.. وهذا هو ما يحمل المتبصر على عدم الثقة الكبيرة فى المستقبل الذى تنتظره البشرية !
ولكن هل يجتمع الأمان الداخلى مع الرغبة المخلصة فى الفهم وهل تلتقى الثقة العميقة فى وفاق مع تدفق الأسئلة وتواليها وصعوبة الإجابة عليها أو استحالتها !.. وهل تتأتى الطمأنينة والأمل والتفاؤل ونتائج الفهم وما يصحبه من إحساس مروع بغموض الحياة والكون غموضاً لا آخر له؟!
يبدو للمتأمل أن كلنا يمر قليلًا أو كثيرًا بهذا الموقف، ومعظمنا يسلم ويستسلم لقبول واقعنا وشراء الأمن والثقة والطمأنينة والأمل بتضحية الرغبة فى الفهم إما كليًا أو جزئيًا.. وفينا من يقدر على تفادى الشعور بالخيبة ـــ بتصور أنه أتم وأنجز فهم ما يمكن أن يفهم وما لا يطلب من العقل أن يتجاوزه ويتخطاه.. وأن الغيوم التى يعيش البشر فى ظلها منذ أن وجدوا، وراءها وضوح أزلى أبدى تام كامل الصدق والصحة لا بد أن يؤمن به كل عاقل أملاً فى رؤية أفضل بكثير وفهم أتم وأكمل.. هذه الإحالة وهذا التأصيل مزيتهما استعادة الراحة الداخلية وصدّ الإمعان فى محاولة فهمنا لما لا نستطيع الإحاطة به مع إعطائنا فرصة معقولة للابتعاد عن معتقدات العامة وتصوراتها التى لا تصمد للواقع.. وهذا يبدو أنه ليس إلاَّ حيلة ذكية من حيل العقل البشرى للتغلب الوقتى على ما يصادفه من مشاكل وعقد ومعايشتها معايشة قد تنتهى إلى نسيانها ونسيان عبئها على حياته وتفكيره.
بهذا ومثله يخرج الآدمى من تاريخه وتاريخ وجوده الممتد أمام وعيه وذاته منذ أبعد.. وهذا الخروج تدعو إليه الأديان كما يدعو إليه التصوف، لأنهما لايعرفان التطور ولا يعترفان به.. ولأنهما يفترضان وجود الإنسان باستعداداته وملكاته الحالية منذ وجد آدم، وأنه سيظل كذلك إلى أن تقوم الساعة.
وينبغى ألا ننسى أن الفهم وإرادة الفهم، أصل كل مسئولية معقولة أخلاقية.. فالذى لا يفهم ولا يمكن أن يفهم حقيقة ما يأتيه وما لا يأتيه وعواقب ذلك ـــ لا يمكن عقلاً أن يحاسب. ونحن ما زلنا نخلط فى تبرير ردود أفعالنا بين الاستجابة لمخاوفنا وبين احترامنا لعقلنا وفهمنا.
ونحن قد نمارس الفهم ولا نمارسه فى ذات الوقت دون أن نشعر بأى حرج أو تناقض.. لأن عقولنا تعمل مع عواطفنا تارة منصاعة وتارة مساعدة ومعاونة وتارة آمرة ناهية دون خوف من التعارض، وذلك نتيجة معايشتنا للعواطف معايشة متصلة حميمة منذ أن نولد إلى أن نموت.
وهذا قد يدعونا إلى ما يشاهد فى معاملتنا لأقربائنا ومعارفنا ومن نجله أو نشفق عليه ونبذل له الرفق أو التسامح أو التواضع ودون إمعان أو تدقيق فى رد الأمور إلى العقل والمنطق وصحة الفهم واستقامته.
هكذا تبدو للمتأمل حياة الآدمى العاطفية والعقلية فى مجراها وما يحدث منها وفيها، عجيبة من عجائب الخالق عز وجل فى مزجها لأمور كثيراً ما تبدو لنا متصادمـة أو متناقضة، ولكنها موجودة تعمل تبعا لأغراض وحكمة قد نفهم بعضها ولكننا لا نفهم أغلبها أو معظمها!!
www. ragai2009.com
[email protected]