المقصود المبدئى الأول من تعرفينا بالآخرة بمآلها ووضعها، وبطريقة بارزة أمام أعيننا وفى بؤرة البؤرة من الإيمان، إنما هو تنبيه وعينا وتذكيره بأنه مسئول محاسب حتمًا عن سلوكه فى هذه الدنيا أيا كان الآدمى وأيا كانت طبقته ومكانه وزمانه..لأن هذه المسئولية وشعور الآدميين جميعا يحملها أمران لا زمان لبقاء الجنس البشرى وعدم انقراضه ومعه محو كامل ما حققه مما هو ثمين جدًا.
فحتمية موت الأفراد أصل لبقاء الجنس واستمرار وجوده.. وهو أصل كونى.. وهذا الأصل يسقط ناموسه إذا لم تنجح الحياة فى الانتقال المتعاقب بين الأفراد من جيل إلى جيل.. لأن هذا الانتقال غير المنقطع يطّرد فيه تسلّم الحياة من فرد إلى فرد فيطّرد وجود المجاميع والجماعات والأمم والأقوام.. وهذا هو بقاء الجنس. وزوال الجنس فقد كونى يبدو فادحًا ولذلك تتجمع الأسباب والمؤثرات للحيلولة دون وقوعه.. لأنه إذا وقع عسير الاستعادة كما كان إن لم يكن ممتنعا إعادته فى الكون بنفس تركيبه واستعداداته.. فبين استمرار وجود الإنسان وبين الكون العظيم علاقات تبادلية يجب علينا الالتفات إلى انتظامها واحترامها والمحافظة عليها، ويجب لدوام ذلك الالتفات ـــ دوام شعور الآدمى بمسئوليته الفردية نحو أقرانه ونحو الجماعة ونحو نفسه.. وكلما تنبه هذا الشعور وقوى، زاد نمو الآدمى ورقى جماعاته وزاد أمنا على فرص بقاء جنسه.. لأنه إذا تقلصت هذه الفرص نتيجة عدم المبالاة وعدم المسئولية، انحدر الآدميون إلى الغفلة والتدهور والضمور والانقراض فتصبح الحياة المشتركة شديدة الصعوبة على المشتركين فيها ذكورًا وإناثًا، ويحمل كل آدمى على الابتعاد والانفراد.. وهو ما يؤدى إلى الذبول والندرة والزوال !!
والآفة التى تعطل شعورنا اللازم بالمسئولية هى تأخيرنا لما يجب تقديمه وتقديم ما يجب تأخيره.. فنحن صغارًا وكبارًا يقدم أغلبنا البادرة وعاجل الخاطر ويرحب بالاندفاع بالتأييد والتنفيذ ويسرع فى القبول والرفض وفى الرضا والغضب وفى الانحياز والشهوة والأنانية والرعونة والتطير والخوف على الأناة والتردى والتمهل فى اتخاذ الجانب أو القرار ومقاومة الرعونة والشهوة والأنانية والافتعال.. يقدم الآدمى ويؤثر ذلك على الحرص على العدل وتحرى الصواب والحـق والإنصاف !.. إن ألسنتنا تردد اسم الله فى كل لحظة راحة بعد تعب أو غضب عقب إثارة أو إحساس بحلو أو لذيذ أو جميل.. ولكـن يبدو أن ذلك لمجرد الإعلان عن الشعور الذاتى المعين الشخصى الحاصل وقتئذ، لا لأننا استحضرنا الخالق جل شأنه فى وعينا وأعلنا بيننا وبين أنفسنا إقرارنا بتذكره وأفضاله.. ولو فعلنا ذلك لتغير كل شىء فى سلوكنا، ولكن لأن ذلك الاسم صار بالاعتياد لفظة تعجب لمجرد التعجب نكرره دون شعور بمعناه لدى شعورنا بأى من تلك المشاعر الشخصية، فإن الاسم صار اصطلاحًا من اصطلاحات لغتنا الجارية المألوفة التى تسمع من كل آدمى، ولم يعد فى ترديده وتكراره باللسان تذكير ما لوجود رب أو دين أو ضمير مسئول قريبًا كان ذلك التذكير أو بعيدًا. بل بات مجرد صوت ببغائى لشعور عارض تعودنا عليه تبعًا لآلية الاعتياد.. لأننا تعودنا أن نستخدم اللغة لخدمة مشاعرنا الشخصية فقط، فصار هذا الاستعمال مجرد رديف لتنفسنا بارتياح أو غضب أو سخط !.. هذا الاعتياد يكون له مقر دائم فى وعينا، خاليا من اليقظة والنشاط عرضة فقط إما لأداء ذلك الاستعمال الآلى الذى لا يكاد يحس، وإما لانفجار تعصبنا غير العاقل لحماية عنصر من عناصر وعينا درجنا على وجوده فينا كما كان موجودًا فى آبائنا وآباء آبائنا.. وتعصبنا هذا ليس إلاَّ طاقة عنيفة عاطفية غير واعية، طبعها الحماية ورد العقل وليس المزيد من التفهم والتفطن والترقى والتغلب على ما يصادف حياة الآدمى من المعوقات والعقبات.. وتلك الحماية وما معها من رد الفعل، قليلة الجدوى وحدها فى الإبقاء على جنسها لأنها وحدها تقودنا إلى الانكماش والذبول اللذين يصحب استمرارهما عجز البشر عن متابعة تغييرات البيئة الدائمة التغير تبعا لنواميس الكون.. علمًا بأن بقاء جنسنا رهن باستمرار مقدرتنا ونجاحنا فى تلك المواجهة المطّردة بفضل استمرار الزيادة فى العناصر الفطنة النشطة فى الجماعات البشرية فى كل عصر. إذ ندرة تلك العناصر نذير بالغ السوء والخطورة على الجنس كله يجب على كل إنسان أن يلتفت إلى توقيه بكل ما فى طاقته.. ذلك أن واجب المحافظة على استمرار بقاء الجنس، واجب يحمل مسئوليته كل فرد منا شاء أو لم يشأ. لأنه لا بقاء لأحد فى أى مكان وزمان إن باد الجنـس وانقرض.
www. ragai2009.com
www. ragai2009.com