أزمة الزعامة السياسية (14)
أمثلة الديكتاتوريات التى تحصّنت بالاستبداد والقهر، عديدة فى التاريخ وفى الحاضر فنرى مفكرًا كالأستاذ العقاد يعنى ببيـان مخاطـر هذا الحكم المطلق منذ كتاباته الأولى، فى يومياته وشذراته الأولى عام 1911، ثم سنة 1915، وفيما كتبه عن الاستبداد فى مجموعات «الفصول» و«المطالعات» و«المراجعات». وما كتب عن «النازية والأديان السماوية» عام 1940، وأخرج كتاب «هتلر فى الميزان» فى ذات عام 1940، أى قبل نهاية حياة هتلر منتحـرًا مع نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، وسبق هذه الكتابات كتابه الصادر 1928 : «الحكم المطلق فى القرن العشرين».
فقد كان الاستبداد المطلق مقدسًا فى زعم رجال الدين وكان وسيلتهم أو جسرهم لحفظ مكانتهم وقضاء مآربهم.. فألحقوا بالحكم «مصدر إلهى» بزعم أن الحاكم (المستبد) يتلقاه من السماء فلا هو يُسأل عنه ولا أحد يملك هذا السؤال وليس للشعب أى شعب إلاَّ أن يطيع حاكمه كما أطاع ويطيع خالقه ويؤمن بحكمته كما آمن ويؤمن بحكمة ربه.
كان هذا هو مصدر الحكومة المستبدة إلى ما قبل القرن الثامن عشر وكان الإيمان به أو التسليم له شائعًا لا يشك فيه إلاَّ أفرادٌ معدودون من أحرار الفكر يتخفون بآرائهم كما يتخفى المجرم بجريمته.
وقد شاهدنا نماذج لهذا الحكم الثيوقراطى وانتحال الحديث بل والفعل بأمر الإله، فى غير قليل من حكام الدولة الأموية ثم الدولة العباسية، وعبر عن ذلك تعبيرًا واضحًا فى صدر الدولة العباسية «أبو العباس السفاح»، الذى أوغل فى سفك الدماء فنال لقب «السفاح» عن جدارة واستحقاق».
وتتجلـى الثيوقراطيـة فى أسوأ صورها، فى الخطبة الضريرة التى ألقاها أبو العباس السفاح إثر بيعته، وفحوى ما ألقاه أن الخلافة «ميراث شرعى» عن النبوة لأسرته، متصورًا أن النبوّة تركة تورث، فقال: «الحمد لله الذى اصطفى الإسلام لنفسه فكرَّمه، وشرَّفه وعظمه واختاره لنا وأيّده بنا..، وجعلنا أحق بها بالخلافة وأهلها وخصّنا برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته!!
وختم السفاح هذا الخلط والتخليط الفادح، فأدخل النبوّة فى الإرث، وجعل حقهم فى الخلافة مستمدًّا من الميراث، وزاد على ذلك أن «عِرقهم طاهر مطهّر إلى يوم الدين، وأن لهم حقًّا فيما يفىء به الله على المسلمين.. فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المنيح».
وتجاوز أبو جعفر المنصور الخطبة الثيوقراطية التى ألقاها أخوه السفاح بالكوفة، وادعى فيها أنهم يرثون الخلافة من النبى عليه الصلاة والسلام، ولهم ما كان له فى القرآن، فإذا بالمنصور يدعى أنـه سلطـان الله فى الأرض، يسـوس الناس بتوفيقه وتسديده، ويعمل بمشيئته، وهو خازن فيئه، والذى يقسمه بإرادته، ويعطيه بإذنه، وقال للمسلمين بخطبته أيام منى فى الحج :
«أيها الناس ! إنما أنا سلطان الله فى أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه. فقد جعلنى الله عليه قفلاً، إذا شاء أن يفتحنى لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحنى، وإذا شاء أن يقفله أقفلنى. فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه فى هذا اليوم الشريف، الذى وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به فى كتابه إذ يقول تبارك وتعالى : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا» أن يوفقنى للصواب، ويسددنى للرشاد، ويلهمنى الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحنى لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم إنه سميع قريب !».
على أنه حين انتقل سلطان الحكم من الملوك المستبدين إلى مشيئة الشعوب انتقلت القداسة معه إلى المصدر الجديد فصار الحكم الجديد يتترس بحكم العادات المتأصلة والعقائد الموروثة بالقداسة المستمدة من التفويض الشعبى وصارت هذه العقيدة الحديثة عقيدة فى الضمير يشوبها الإبهام!
ظهرت هذه الدكتاتوريات فى تركيا، وإيطاليا، وإسبانيا، وامتدت ظلالها إلى مصر فيما عرف بحكومة اليد القوية، حكومة محمد محمود باشا الذى أطلق هذا المسمى «اليد القوية» على حكومته، وترجع جذور هذا الاستبداد إلى تحكم الإنجليز والسراى فى الحكم، وتغيير الوزارات على هواهما !!
وتاريخ الدولة العثمانية، محفوف بالدماء، يقتل الأب ابنه، والابن أباه، والأخ أخاه لإقصائه عن السلطة بل وعن التطلع إلى السلطة، حتى قتل أحد السلاطين يوم توليته، تسعة عشر أخًا من إخوته الصبية والأطفال مخافة أن يسعوا إلى الحكـم إذا عاشـوا وكبروا.
ومع أن مصطفى كمال أتاتورك ألغى الخلافة فى 3 مارس 1924، وصار معبود الجماهير فى تركيا، إلاَّ أن حياته كلها ملآنة بطبعه الأصيل فى الاستبداد والإقصاء، وهى طويلة تعكس دكتاريته السوداء، قبل توليه الحكم، وبعد توليته، ولم يكن أقل تجاوزًا فى الدماء، وإيقاع الظلم والإقصاء من سلاطين الدولـة العثمانية!!!
www. ragai2009.com