لم تنج ثورة 1919، والوفد الذى تشكل من رحمها، لم تنج من ظاهرة الإقصاء وتقلص دائرة القمة، وظل الانفراد والضيق بالآخر يعمل عمله فيها كما أعمله سلفًا فى الثورة الفرنسية، وقد عانى الوفد من ذلك من البدايات، وأيام سعد زغلول، وظل يعانى من هذه الظاهرة أيام مصطفى النحاس من بعده.
لقد بدأ تكوين حزب الوفد من سبعة عشر عضوًا أساسيين:
1ـ أحمد لطفى السيد 2ـ عبد العزيز فهمى 3ـ على شعـراوى 4ـ محمد محمـود 5ـ عبد اللطيف المكبانى 6ـ محمد على علوبه 7 حافظ عفيفى 8 مصطفى النحاس 9ـ حمد الباسل 10ـ محمود سليمان 11ـ إسماعيل صدقى 12 محمود أبو النصـر 13ـ سينوت حنا 14ـ جورج خياط 15 واصف بطرس غالى 16ـ عبد الخالق مدكور 17ـ حسين واصف.
هذا ومع أن المادة السابعة من قانون الوفد نصت على أنه لا يتم فصل أى عضو من الوفد إلاَّ بعد موافقة ثلاثة أرباع أعضاء الوفد، بيد أن هذه المادة لم تطبق قط، وتولى صرف أعضاء الوفد، أو فصلهم، بقرارات تكاد تكون فردية، وتكرر ذلك فى كل عهود الوفد منذ ثورة 1919، وأظهر نتائجه تقلص دائرة القمة فيه، وكان أول وأخطر انشقاق فى الوفد، حول مشروع ملنر، تطبيقًا لخطة الوفد الأصلية قبل الثورة، جاء المشروع موفيًا لحق مصر فى تقدير أعضاء الوفد المنتمين سلفًا لحزب الأمة، باعتباره أكثر ما يمكن تحقيقه فى الظروف السائدة، ولكن سعد وبعض ملاكى الأراضى الزراعية الذين مستهم أحداث الثورة وغيرت تفكيرهم، رأوا عكس ذلك، آملين أن ثورة 1919 مجرد بداية، وتتابعت تداعيات هذا الاختلاف فى الرأى، واتخذ شكل صراع بين سعد زغلول ومن اعتبروا خصومه للاختلاف فى الرأى، وأوحى مصطفى النحاس أحد المؤيدين لسعد، إلى مراسل الأخبار التى أسست عام 1920 ورئيس تحريرها أمين الرافعى من الحزب الوطنى أوحى إليه أن عدلى يكن يعوق عمل الوفد، وفى يناير 1921، أبرق النحاس إلى أمين الرافعى بأن «يكن» يمثل كارثة على الوفد، وبعث النحاس ببرقية أخرى إلى اللجنة المركزية للوفد تتهم عدلى يكن بالانشقاق على سعد زغلول، وتدين تصرفه، وعندما سأله بقية الأعضاء المؤيدين لعدلى، أجابهم بأن البرقية كانت سرية، وأن المراد منها توجيه سياسية صحيفة الأخبار، وقال على ماهر فيما بعد، إن النحاس كان يعمل بتوجيهات سعد زغلول، بينما أنكر سعد علمه بهذه البرقيات، ولكنه لم يتخذ أى إجراء مضاد.
وبدا واضحًا فى الأفق أن «دائرة القمة» فى الوفد تضيق بالرأى الآخر، وتسرف فى رد فعلها إزاء من يختلف رأيه، وزاد على ذلك، أن عاد من باريس إلى مصر فى ذات الشهر: عبد العزيز فهمى وأحمد لطفى السيد ومحمد على علوبة ومحمد محمود وحمد الباسل، بينما قام سعد زغلول بإرسال برقية إلى اللجنة المركزية للوفد يحذر فيها ممن أسماهم «بعض الناس» أنهم على استعداد للدخول فى المفاوضات بأى شروط. وكان من نواتج ذلك، دون الدخول فى المزيد من التفاصيل، أن المسألة أخذت شكل صراع بين سعد ومعه مجموعة مكونة من مصطفى النحاس، وواصف بطرس غالى، وسينوت حنا، وويصا واصف، أخذوا صف سعد زغلول، وبين بقية أعضاء الوفد.
ويبين من ذلك أن تقلص دائرة القمة فى أى كيان، لا يرجع فى كل الأحوال إلى عقوق أو جحود، وإنما إلى الاحتكام إلى الرأى الشخصى ورفض ما عداه ومن يخالفه، وهى ظاهرة تؤدى فى النهاية إلى تقلص دائرة القمة، مما يمكن معه بالتتابع أن تنحصر القيادة فى شخص واحد، وهو ما جرى فى حالات غير قليلة، مع اختلاف الزمان والمكان والكيان فى العالم، أقربها إلى الذهن هتلر فى ألمانيا، وموسولينى فى إيطاليا، وستالين فى روسيا، ومعظم زعماء أو رؤساء العالم الثالث، وهذا هو سبب تحول كثير من الثورات عن الصورة الديمقراطية التى تبدأ بها، إلى صور عكسية، تتساقط فيها أوراق المجموعة أو تستبعد تباعًا. ولعل أبلغ الأمثلة على ذلك فى العصر الحديث الثورة الفرنسية التى ذهب قادتها تباعًا إلى المقصلة، ولم ينج من هذا المصير أقطاب قيادتها بما فيهم روبسبير.
www. ragai2009.com