بين هرم الموسيقى محمد عبد الوهاب وهرم المحاماة والسياسة مكرم عبيد (1)
عشت فى الأيام الصعبة التى مرت بى أخيرًا، أو بالأحرى هربت من مواجعى إلى موسيقار الأجيال، الفنان العظيم محمد عبد الوهاب تسألنى لماذا عبد الوهاب بالذات، أقول لك ما من أحد من جيلنا إلاَّ وفى قلبه ركن يعيش فيه محمد عبد الوهاب، فقد عشنا عمرنا معه، واعاش بأغانيه فينا.. فى قلوبنا، ووجداناتنا، ولا أبالغ إذ قلت وفى عقولنا..
كان أول ما وقعت عليه يدى للموسيقار الرائع، سيرته الذاتية التى أملاها على الأستاذ لطفى رضوان، ونشرتها دار الهلال فى كتاب الهلال رقم 486 الصادر فى يونيو 1991. اختارت دار الهلال هذا الموعد، لأن قبله بشهر رحـل الأستـاذ محمـد عبد الوهاب عن دنيانا فى الثالث من مايو 1991 ؛ كان رحيله رغم طول العمر مفاجئًا، لأنه كان بصحة جيدة، رعاها بنظام صارم، ولكن شاءت الأقدار أن يصطدم رأسه صدفة فى باب بسكنه، فكانت بداية رحلة الوداع التى أضنت كل محبيه، وهم كُثُر.
حين تقرأ عبد الوهاب، سوف يشدك رشاقة أسلوبه وعباراته، ورُقِى فكره وسلوكياته، وعمق نظرته للحياة، وفهمه العميق لطبائع الناس.. حلوها ومرها.. وسوف تلمس مما عليه عبد الوهاب، أثر أمير الشعراء أحمد بك شوقى عليه، وتدرك عمق هذا التأثير على شخص نشأ نشأة مستورة فى إحدى حوارى باب الشعرية، وهرب أكثر من مرة من المنزل، والدراسة النظامية، ليشبع هوايته فى الموسيقى والغناء، يتردد على الأفراح، بل يتسلل إليها ليسمع كبار المطربين، ويسعد بتقليدهم.. فى إحدى المرات شاهده أحمد بك شوقى، فأفزعه صغر سنه، وخاف عليه فى هذا السن الغض من الدخول المبكر فى هذا الخضم. فسعى بصلاته لإيقاف تردده على الأفراح والاحتفالات للانصراف لدراسته، ونجح فى هذا حتى كرهه عبد الوهاب، ولكن تشاء الأقدار أن يراه أحمد شوقى يغنى فى بيروت بعد سنوات قليلة، فيناديه ويحييه ويتعهده بالرعاية منذ ذلك اليوم، حتى صار واحدًا من بنيه، وظلت هذه العلاقة الوطيدة التى فتحت له جميع الأبواب، وتحلى فى احتكاكه به بالعديد من المناقب، ولذلك لن يدهشك وفاء موسيقار الأجيال له فلا تكاد تمضى صفحة من السيرة الذاتية، إلاَّ ويذكر فضلًا من أفضال شوقى بك عليه. وحين ترى ذلك فى عبد الوهاب، تدرك لماذا تسلل إلى قلوبنا، وصار ركنًا هامًا فى قلب كل واحد منا مدى أعمارنا فى هذه الحياة.
لا أنوى طبعًا أن أسرد عليك سيرته الذاتية هنا، ولكن لفت نظرى الصداقات التى انعقدت بينه وبين كبار العصر من الساسة والزعماء والمسئولين والأدباء والعلماء والشعراء. والقائمة طويلة، مصطفى النحاس باشا، والأخوان عبد المجيد وعبد الحميد عبد الحق، وكلاهما باشا، ومحمود فهمى النقراشى باشا الذى قامت بينهم صداقة وطيدة، ومحجوب ثابت، والشيخ عبد العزيز البشرى، والدكتور حسين هيكل باشا، وتوفيق الحكيم، وفكرى أباظة، وسعيد لطفى، وأحمد باشا عبد الغفار وأحمد خشبة باشا وغيرهم.
ولكن أعجب الصداقات، الصداقة المتينة التى نمت بين عبد الوهاب هرم الموسيقى والغناء، وهرم المحاماة والسياسة مكرم عبيد باشا..
لم يكن لعبد الوهاب علاقة بالسياسة والساسة، ولا كان وفديًّا أو فى أى حزب آخر، ولا يجد الوقف والجهد لخوض هذا المعترك، ولو من باب الفرجة، إلاَّ أن القدر يشاء أن يتعرف بمكرم عبيد عن طريق صديقه عبد الحميد باشا عبد الحق.
يقول عبد الوهاب فى سيرته الذاتية، إنه كسب فى مكرم عبيد صديقًا متميزًا يعتز الإنسان بصداقته، وانفتحت بينهما أبواب الصداقة من أول لحظة إلتقيا فيها. وتعددت لقاءاتهما، وإذ بعبد الوهاب يفاجأ بأن مكرم فنان بالفطرة، ودارس أيضًا للموسيقى، وأن طبيعة الفنان فيه مختفية وراء غلاف شفاف من خشونة السياسة.
روى لنا عبد الوهاب، أنه تعددت بينهما اللقاءات، وعرف فيه موسيقيًا موهوبًا، يتذوق الموسيقى ويفهمها بطبعه الأصيل، ويملك إلى ذلك صوتًا جميلًا، وكثيرًا ما أسمعه بعض الأغنيات من تأليفه وتلحينه، وأنه أسمعه منه أغنية من هذه الأغانى التى لحنها، مطلعها « زهرة البنفسج »، وعزف هرم المحاماة الزعيم السياسى، عزف اللحن على البيانو القيم الموجود بمنزله، وغنى بصوته العذب فأطرب عبد الوهاب هرم الموسيقى والغناء!
أدركت هنا سرَّا من أسرار نبوغ مكرم عبيد فى المحاماة وفى الخطابة، فقاعدتهما تكمن فى الموسيقى والطبقات الصوتية التى يتوسدها فن الإلقاء.
www. ragai2009.com