فى المنهج الأزهرى (3)
من يقرأ مقدمة كتاب «مقالات الإسلاميين» لأبى الحسن الأشعرى، سوف تهتز مشاعره فيما يبسط الإمام الطيب لسماحة الإسلام المدهشة. التى تجسدت فى فكر هذا الإمام الجليل، الذى إستعرض الإختلافات المذهبية التى جرت على عهده، وقسمتهم إلى فرق وطوائف معتدلة ومتشددة، وأحزاب شتى، إلاَّ أنه لم يقص أحدًا متمسكًا بأن الإسلام يشملهم.
حين حضرته الوفاة فى بغداد سنة 571 هـ، قال لأحد تلاميذه: «إشهدْ علىّ أننى لا أكفر أحدًا من أهل القبلة ؛ فكلهم يشيرون إلى معبودٍ واحدٍ، وإنما هذا كله إختلاف العبارات».
وحقيقة الأمر أن المنهج الأزهرى مؤسس على تعددية المذاهب، وفلسفة الحوار، ومنطق العقل المؤيد بالنقل، وهو أقدر المناهج على علاج أزمة العقل الإسلامى المعاصر، وما آل إليه أمر الأمة الإسلامية، وخاصة الأمة العربية، من تفكك وإضطراب وتمزق.
ليس صحيحًا ولا مشروعًا ماشاع مؤخرًا فى بلادنا من ظاهرة التنكر للولاء للوطن، واستبداله بولاءات أخرى عقدية أو مذهبية أو سياسية.
«إن للوطن حقوقًا شرعية وأخلاقية، وإن البرّ به ورعاية حقوقه لمِنْ صميم أحكام الإسلام ومقاصد شريعته، وإن العابثين بحرمة أهله وحرمة دمائه والخارجين على أمنه وأمانه هم «قتلةٌ» وصفهم القرآن الكريم بأنهم يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادًا وحدَّد جزاءهم الذى نعلمه جميعًا خزيًا فى الدنيا وعذابًا عظيمًا يوم يلقون ربهم».
ما أحرانا فهمًا لذلك أن نتذكر كلمات النبى عليه الصلاة والسلام حينما تحركت أشجانه وهو يودّع مكة المكرمة مسقط رأسه الشريف، مهاجرًا إلى المدينة. قال: «ما أطيبك وأحبك إلىّ، ولولا أن قومك أخرجونى منك ما خرجت ولا سكنت غيرك».
ونرى ذلك فيما أطلقه بلال بن رباح من شعر يفيض شوقًا إلى الوطن كلما أفاق من الحمّى التى أنهت حياته الدنيا.
«من ذلك أيضًا، أن النبى عليه الصلاة والسلام، بعدما آخى بين المهاجرين والأنصار كتب وثيقة المدينة بين المسلمين وغير المسلمين ؛ ليؤمِّن الوطن الجديد، ويضمن ولاءَ غير المسلمين لهذا الوطن ؛ حتى لا تتزعزع أركانه، أو يتصدع بنيانه، وقد تأسست هذه الوثيقة فى ذلك الوقت المبكر على مبدأ المواطنة الكاملة، واعتبرت اليهود المقيمين فى المدينة من مواطنى الدولة الإسلامية، ونص النبى صلى الله عليه وسلم على: «أن يهود بنى عوف أمَّة مع المؤمنين».
ولكن لمَّا نقض اليهود ما جاء فى بنود هذه الوثيقة، وشكّلوا خطرًا يهدد أمن المجتمع بالتآمر عليه مع كفار قريش والقبائل المحيطة بالمدينة، لم يتردد النبى صلى الله عليه وسلم فى التصدى لهذه الخيانة، وحماية الوطن من الخائنين، وكان ما كان مما نعلمه من موقف النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمين من مواجهة اليهود الناكثين للعهد، وإجلائهم خارج المدينة.
«إن هذه المواقف حجج شرعية ساطعة وبراهين عملية على انحراف هؤلاء الذين يعيشون بأجسامهم فوق أرض، بينما ولاؤهم رهنٌ بأرض أخرى، أو جماعات مشردة فى الآفاق، أو زعامات ضالة مضلة هنا وهناك».
لماذا ينعم الآخرون بالأمن والسلام والرفاهية، ويشقى العالم العربى بحروب طاحنة بخوافيها ومآلاتها؟!
ما نحن فيه، بسبب آفات التكفير والإرهاب والقتل على الطائفة والمذهب.
أول هذه الأسباب، فيما يرى الإمام الطيب، إنما يكمن فى أننا أغضينا الطرف طويلاً عن تعليم يضع فى حسابه وحدة هذه الأمة العربية الإسلامية.
والسبب الثانى أن فريقًا من علماء الأمة لم يعد همهم الأكبر حفظ وحدة الأمة ومصلحة المسلمين، بقدر ما أصبح همهم الأول الانتصار لمذهب واحد، وتفسيق أصحاب المذاهب الأخرى.
وثالثه الأثافى، فيما يرى الإمام الأكبر الدكتور الطيب هو انشقاق العلماء أنفسهم وانغلاق كل منهم على مذهب معين، مما فتح الباب لما نراه من حروب تمزقت فيها أشلاء الأمة.
إن الثقة فى الله تعالى، وفيما وعد به الأمة، تستوجب أمورًا لعلها تخرجنا مما صرنا إليه.
أولاً: ضرورة العودة بالخلافيات فى العقائد والأديان، من شاشات الفضائيات، إلى أروقة الدروس ومجالس العلماء المختصين المتمكنين.
ثانيًا: ضرورة تصدى العلماء من جميع المذاهب الإسلامية بفتاوى صريحة وواضحة ترد عبث العابثين بتراث الأمة ومقدساتها.
ثالثًا: وقف آلة التكفير المتبادل وقفًا تامًا، والعمل الجاد للقضاء على ثقافة الحقد والعداء والرغية المحمومة فى الاستحواذ والإقصاء.
لا سبيل للخروج من هذه الأزمات التى تطحن العرب والمسلمين، إلاَّ والحوار وحده، بين المسلمين فيما بينهم، ومع غيرهم، فهو الكفيل بتفويت الفرص على من يضمرون السوء والإضرار، وهدم مخططات حروب الجيل الرابع، وإستعادة الوعى، وبعث الأمل فى مستقبل أفضل، آمن ومستقر.
www. ragai2009.com
[email protected]