فى المنهج الأزهرى (2)
لا يقتصر المنهج الأزهرى على ترسيخ مبدأ الحوار وشرعية الاختلاف واحترام الرأى الآخر فى دائرة المذاهب الفقهية والفكرية للمسلمين، بل يعمل الأزهر على ترسيخ ذات المبدأ فيما يتعلق بعلاقة الإسلام والمسلمين بالأديان السماوية الأخرى، ملتزمًا فى كل ذلك بالوسطية التى تحدَّث عنها القرآن الكريم: «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» (البقرة 143).
ويشير الإمام الطيب إلى ما أشارت التقارير الرسمية مرة إليه، من أن قوائم الحركات الإسلامية المسلحة قد خلت من أبناء الأزهر والمتخرجين فى جامعته، وما هذا إلاَّ أثرُ للمنهج الأزهرى فى التدريس وفى صياغة العقول وفى الدعوة.
ربما عز أن تجد فى شعوب دول العالم الإسلامى عدم الإنحياز إلى مذهب فقهى واحد، يرتبط به الشعب تعلّمًا وتعليمًا وتطبيقًا، وتجد فى تلك الدول نزعة إلى المذهب الذى تعتنقه، وتتحزب له، ولا تقبل غيره.
والصورة فى الشعب المصرى مختلفة، فتجد أهل السنة على المذاهب الأربعة، فهذا مالكى، وذاك شافعى، والثالث حنفى، والرابع حنبلى، يأخذ بذلك المسلمون المصريون دون تحزّب ولا غضاضة، وتجد منبع هذا النظر فى المنهج الأزهرى.
وحرصًا من الأزهر على استبعاد الأفكار والمذاهب التى تميل إلى الانغلاق الذهنى، وما ينتج عن ذلك من تشدد وغلو، وتكفير من يخالفه، فإن الأزهر تبنّى من قديم المذهب الأشعرى للإمام أبى الحسن الأشعرى المتوفى سنة 324 هـ، ويتخذه منهجًا فى تدريس العقيدة الإسلامية لطلابه وطالباته، إذ لا اختراع فى هذا المذهب السمح لعقيدة مستحدثة لم تكن على هدى النبى عليه الصلاة والسلام وصحابته، ويجتث من أصوله وفروعه نزعة التعصب والتكفير والإقصاء، بل هو المذهب الوسط بين جموح العقليين وجموح النصيين، ولذلك اتسع المذهب للمسلمين جميعًا ما داموا يشهدون بأن لا إله إلاَّ الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ويقيمون الفرائـض التى أمر بها الإسلام.
يحفظ طلاب وطالبات الأزهر قانون هذا المذهب، وهو: «لا تُكَفِّر أحدًا من أهل القبلة، ولا يخرجك من الإيمان إلاًّ جحد ما أدخلك فيه» «أى أن تجحد وتكذب بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله».
وصاحب الكبيرة فى هذا المذهب مؤمن، وإن مات وهو مُصِر على إرتكابها، فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه.
كما يحفظ طلاب وطالبات الأزهر فى مقرر مادة التوحيد فى كلية أصول الدين وكل الأقسام المناظرة فى كليات الدراسات الإسلامية والعربية المنتشرة فى ربوع مصر يحفظون قول الإمام النسفى الذى فصل فصلاً حاسمًا بين الذنوب والكبائر من ناحية، والإيمان من ناحية أخرى، ليبين للناس أن الذنوب والكبيرة، لا تُخرج المؤمن من الإيمان، ولا تدخله فى دائرة الكفر والكفار.
وما ذهب إليه الإمام الأشعرى والأشاعرة، هو ما يقرره القرآن الكريم فى صريح آياته، فقد سمَّى مرتكب الكبيرة مؤمنًا وحكم بإيمانه فقال «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا» (الحجرات 9)، فقد وصف القرآن الطائفتين المتقاتلين بالمؤمنين، مع أن الاقتتال والقتل من الكبائر، كما عطف القرآن الكريم على الإيمان عطف مغايرة بينهما مرارًا وتكرارًا فى مثل قوله تعالى: «… آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» (البيّنة 7)، وقانون اللغة يقضى بأن الشىء لا يُعطف على نفسه، وأن «واو العطف» تقتضى أن يكون ما بعدها مغايرًا فى حقيقته لما قبلها.. فإذا توسَّطت «واو العطف» فى هذه الآيات بين الإيمان والعمل، فلا مفَرَّ من أن يكون للإيمان معنًى وللعمل معنًى آخر، وأن تكون حقيقة العمل خارجة عن حقيقة الإيمان، وأن يبقى الإيمان ثابتًا رغم انتفاء العمل الصالح وثبوت العمل السَّيِّئْ الذى هو الذنب والكبيرة.
وهذا المذهب الذى اختاره الأزهر، ونشَّأ عليه أبناء المسلمين هو الذى يُعبِّر عن رجاء الناس فى الله، ورجاء العُصاة والمؤمنين فى عفوه ومغفرته ورحمته، فمهما أسرف العبد على نفسه فى اقتراف المعاصى، فإن شعوره بأنه لا يزال «مؤمنًا بالله ورسوله واليوم الآخر» يفتح أمامه آفاق الثقة فى التواب الغفور الرحيم، بخلاف ما لو استقرّ فى وجدانه أنه كفر بسبب اقتراف الذنوب والكبائر التى قلّما ينجو من اقترافها أحدٌ فإنه عندئذٍ يمتلئ يأسًا وقُنوطًا من رحمة الله، فيُكمِل مشوار حياته على طريق الشيطان ودَربِ الجريمة والضلال.. وقد حذَّر القرآن الكريم من سوء الفهم فى هذه القضية، قضية الخلط بين الإيمان والعمل فقال: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» (الزمر 53).
www. ragai2009.com
[email protected]