الإمام الطيب والقول الطيب
(31)
على أنه ما إن تهاوت البناءات الفلسفية الماركسية مع سقوط الاتحاد السوفييتى، حتى بدأت موجة جديدة للتضليل والالتفاف على المقدسات الإسلامية، وانصرفت هذه الهجمة إلى «التراث الاسلامى» والعبث به وتقطيع أوصاله، فى إطار نظريات متعددة غايتها واحدة هى إقامة «مذبحة للتراث»!
وفارق يدركه العقلاء المخلصون، بين تجديد التراث، وبين هدمه وتقويضه كله، ويذكر الإمام الأكبر أحمد الطيب لطائفةٍ من كبار مفكرينا الأصلاء، أنهم نظروا إلى التراث نظرة شديدة التوازن، ونبهوا إلى أن إهدار كل تراثنا العقلى والنقلى فى مشروع النهضة، هو بمثابة «الانتحار» أو الدمار الحضارى والسقوط فى هاوية لا قرار لها. وأنه لا يمكن أن يستوى تحديث الحضارة دون الاعتماد على «تراثها» فى عملية التحديث، وذلك حتى تستبين شخصيتها وتتحدد لها ملامحها وقسماتها بين الحضارات الأخرى.
ولا يفوت الدكتور الطيب التنبيه إلى أن التراث يُؤخذ منه ويُردُّ عليه، يؤخذ منه ما يكون ثقافة تقبل أن نعيشها الآن، ويُردُّ ما كان ثقافة لصيقة بالعصر الذى أنتجها وسوَّغها وارتبطت به، ولم تعد الآن من هموم العصر، ولا تتفق مع تطوراته ومصالحه.
وهؤلاء فيما أبدى ـ هم المتوسطون، الذين ميزوا بين الثوابت والمتغيرات، ونادوا بالحفاظ على الثوابت، ونظروا إلى المتغيرات ـ مع احترامها ـ فى إطار تبدلاتها وتحولاتها التاريخية، حسب تطور الظروف وتقدم العصور وطروء المستجدات، مما يقتضى التجديد وفتح باب الاجتهاد.
على أن ذلك لا يعنى ـ كما ذهب متطرفون ـ إطلاق الحبل على الغارب لكل مثقف حتى وإن أعوزه التأهيل واستيفاء شروط الاجتهاد وضوابطه، وللأسف فإن بعض هؤلاء قد رأوا أنهم جديرون بحركة إحياء التراث بغرض تطويعه لمستجدات العصر، ومن هؤلاء من جَرَّد التراث من أخص خصائصه وهو «قداسة النص»، واستبدل بها ما يسمى عندهم «تفكيك المقدس» ومن هؤلاء من حَصَرَ التراث أصولاً وفروعًا فى فترة تاريخية منتهية، وهؤلاء فيما أبدى ـ هم أصحاب مذهب «تاريخانية النص»، ومنهم من أحال التراث برمته إلى أصول مادية، ليسلك به فى درب المذاهب المادية التى تقف عند حدود «المحسوس»، ولا تعترف بما وراء العالم المادى.
ومن هؤلاء المتطرفين المشتطين، من لجأ إلى تطبيق علم «الهيرمينوطيقا» فى تفسير النص القرآنى وتأويله، ونادى بأن فهم النص غير ثابت وليس نهائيًّا، وأن قراءته مفتوحة وبلا فرق بين نص أدبى ونص دينى، بل ويرون أن القرآن ـ عندهم ـ نص لغوى، تكوَّن فى ثقافة عصره وتاريخها، وأنه من ثم لا يمكن فصله عن بيئته وثقافته التى نزل فيها!
وليس هذا الإيغال فى الشطط هو كل توجه هؤلاء، بل تمادوا إلى التسوية بين النص القرآنى المقدس، والنصوص التاريخية، ومدوا ذلك إلى نصوص التوراة والأناجيل فى الخضوع للقرارات الحداثية، غير عابئين بالفروق الدقيقة الحاسمة بين نص القرآن ومصدره واحد لم يتغير قط، فهو «إلهى مقدس» أساسه الوحى المبلغ بنصه إلى الرسول، وبين كتابات أو إلهامات مؤلفة ومدونة، رواها بشر بصياغتهم وليس كالقرآن الذى لم يصغه بشر، ولم يتدخل أحد أيًّا كان فى صياغته، ولم يكن للنبى عليه الصلاة والسلام من دور أو عمل إلاَّ نقله وتبليغه كما سمعه ووعاه عن الوحى الالهى، حرفًا حرفًا وكلمةً كلمةً، فضلاً عما توفر له من توثيق وحفظ وصيانة وخلود، مما لم يتوفر لأى نص آخر من النصوص التاريخية أو الدينية أو الأدبية أو غيرها.
إن ما ساغ للغربيين فى القراءات الحداثية لنصوص مروية مات أصحابهـا، قائلين بأن الفكر الحداثى يشتغل بالإنسان وينفض يديه من «الإله» جملة وتفصيلاً، وأن العقل وحده هو المرجع وليس الوحى الإلهى، وهو ما لا يمكن أن ينسحب على «النص القرآنى» بمصدره الإلهى بحرفه ولفظه.
ولعله قد اتضح الآن خطورة القضية، وشطط توجهات البعض فيها، مما اقتضى من الإمام الأكبر أن يعرض لها مقدمًا لها بهذه المقدمة، ليتناولها بمنهجية علمية فقهية، متصديًا لقالة البعض : «إن التراث بأصوله وفروعه، لا يصلح للاعتماد عليه فى هذا العصر، وأنه لا بد من إعادة إنتاجه وتوظيفه عبر التجديد»
ولا خلاف على التجديد بل ولزومه، إذا ما تم على أساس استبقاء الأصول والثوابت، وكل النصوص القطعية، مع الاجتهاد المنضبط بالنقل والعقل فى الفروع الظنية أو المتغيرة القابلة للتحرك لمواكبة ما يستجد من الحوادث والنوازل والقضايا.
وفى هذا البحث فيما أبدى الإمام الأكبر، دعوى ومقدمات واستدلالات، وفيه أيضًا مناقشات واعتراضات وردود.. أوردها فضيلته قيامًا بالواجب وإبراءً للذمة وابتغاء مرضاة الله تعالى.
www. ragai2009.com