من تراب الطريق (1190)

من تراب الطريق (1190)
رجائى عطية

رجائى عطية

7:11 ص, الأربعاء, 29 سبتمبر 21

الإمام الطيب والقول الطيب

(22)

التجديد وجوهر التراث

العقلى والنقلى

قانون التجدد أو الصيرورة إنما هو فى الأصل «قانون قرآنى» أو مبدأ لفت القرآن أنظارنا إليه كسنة من سنن الكون التى لا تتبدل ولا تتحول، فأوضـح القرآن هذه الحقيقة بقولـه تعـالى: «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (الرعد 11)، وفى قوله عز وجل: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ» (الأنفال 53).

وقد كان الظن أن فكرة صيرورة الوجود الطبيعى وتجدده لحظة بلحظة، من مقولات قدامى اليونان أو تأصيلات فلاسفة الغرب، فإذا بنا نرى فى التراث المستوحى من القرآن المجيد، قول الأشاعرة المتكلمين فى مباحثهم الطبيعية، إن «العَرَضَ» لا يبقى زمانين متتاليين، وإن وجود الأعراض إنما يكون بانقضائها وتجددها لحظة بعد أخرى، وإذا بنا نرى من المعتزلة كالنظَّام والكعبى من يردد هذه المقولة، بل ويخطـوا إلى أبعد بتقـرير أن «الأجسام» بدورها غير باقية على حالها وإنما تتجدد حالاً فحالاً، لتتجمع الأدلة والنظر الثاقب العميق على أن الكون متجدد وصائر وفى كل لحظة، من حال إلى حال، وأن بنية الإسلام الحية تواكب هذه الصيرورة بما قد تستوجبه أو تحتاج إليه.

ولم يكن ما تبناه أصحاب «الصيرورة» والتجدد الدائم، بناقلين عن الخارج، أو مخالفين لطبيعة الإسلام، بل لفتوا الأنظار إلى الإشارات القرآنية التى تلقوا منها هذا النبع، حتى لنجد الشيرازى فيما يضيف الدكتور الطيب يستمد قوله بأن أعيان العالم متبدلة، ومتزايلة خلقًا بعد خلق، وطورًا بعد طور، وسائرة سائلة إلى طريق الآخرة، متوجهة إلى الله راجعة إليه مما سطع لديه من القرآن الحكيم الذى تضمن آيات عديدة استلهمها فى نظريته فى الكون المتجدد بالحركة الجوهرية، من مثل قوله تعالى: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ» (النمل 88)، ومن مثل قوله عز وجل: «أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ» (ق 15).

وآية أصالة التجديد فى الفكر الإسلامى، حديث النبى عليه الصلاة والسلام: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، على أن صياغة الحديث لا تعنى أن الزمن الواحد لا يكون فيه بالضرورة إلاَّ مجددٌ واحد، بل قد يتعددون فى الزمن الواحد بل وفى المكان الواحد، مما يقوم سندًا فيما أورد الدكتور الطيب لقيام المجامع العلمية المعاصرة التى تضطلع بحركة تجديد جماعى للفكر الإسلامى.

فإذا كان التجديد بهذه الأهمية، بل الضرورة، فلماذا الجمود إذن ؟!

قيل من أسباب هذا الجمود: النظام السياسى المستبد الذى ابتدعته الدولة الأموية، وما أدى إليه من تكريس حالة «انفصام» حاد بين العلوم الإسلامية وواقع المسلمين، وتجمد الفقه بأنواعه، والتزام الأئمة الكبار بفروع الفقه، واقتصار علماء الحديث على رواية «السنن»، والاكتفاء بالأمر الواقع، والانصراف إلى شروح العبادات والمعاملات، فضلاً عن الأزمة الناجمة عن ضعف الدولة العباسية، وفوضى القضاء والإفتاء، وجرأة غير المؤهلين علميًّا على اقتحام المناطق الحساسة، الأمر الذى أسلس إلى «التقليد» ثم «الجمود» ثم «التعصب». وهو الثالوث الذى ضرب خصوبة الفكر الإسلامى فى الصميم !

وقد أحصى الإمام الطيب فى دراسته القيمة، عوامل ما صادفه التجديد من أزمات حالت بينه وبين القيام بدوره، منها عدم التفرقة عمليًّا بين الثوابت والمتغيرات، بينما الإسلام يشتمل على الثوابت الخالدة، وعلى متغيرات متحركة، واتخذ من كل منهما موقفًا نابعًا عما يقتضيه.

وثوابت الدين التى لا تقبل التغيير، ولا يرد عليها تجديد، هى العقيدة، وأركان الإسلام الخمسة، وكل ما ثبت بدليل قطعى من المحرمات، وأمهات الأخلاق، وما يثبت بطرق قطعية فى شئون الأسرة من زواج وطلاق وميراث، ومن الحدود والقصاص.

أما المتغيرات، «فهى كل ما يتعلق بجزئيات الأحكام وفروعها العملية»، وأمثلتها عديدة لا تقع تحت حصر.

ولا شك فيما أورد أن هذه الثنائية بين الثوابت والمتغيرات فى رسالة الإسلام، تكشف عن جانب من أهم جوانب إعجاز هذه الرسالة.

وجدير بالذكر فيما أبدى أن المتغيرات تتسع بطبيعتها لتطبيقات عدة وصيغ مختلفة، كلها مشروع ما دام يحقق مصلحة معتبرة فى موازين الإسلام، ولا يصادر مقصدًا من مقاصده. وما دام الإطار شرعيًّا، فلا بأس من أن يتسع المضمون بصيغه لما يواكب هذه المقاصد الشرعية، ولا محل من ثم لافتعال التعلات للاقتصار على صيغ أو أشكال معينة، أو تجاوز فقه الأولويات، أو الاضطراب فى فهم مقصد الشارع فى هذه المسألة أو تلك.

www. ragai2009.com

[email protected]