الإمام الطيب والقول الطيب
(18)
تراثنا الفقهى المفترى عليه
يتناول الإمام الطيب فى هذه المحاضرة التى ألقيت فى أكتوبر 2017 بمؤتمر « دور الفتوى فى استقرار المجتمعات » يتناول القضية من باب أوسع، هو بيان كيف يقع الإفتراء على تراثنا الفقهى.
يصف كلمته فى مستهلها، بأنها شكوى الغريب، يحملها إلى أهل العلم، وسدنة الشريعة، وحراس القيم السماوية، مما تعج به الساحة الآن ؛ من اكتساح العملة الزائفة للعملة الحرة الأصلية فى مجال الفتاوى وتبليغ شريعة الله للناس، وتصدر بعض أدعياء العلم حلقات تشوية الإسلام، والجرأة على القرآن والحديث وتراث المسلمين، وجلوسهم على مقاعد العلماء فى حملةٍ موزعة الأوار، وفى جرأةٍ ممقوتة، ما يظنها تخفى على أحدٍ، ممن يضيق بهذه الفوضى، وينشغل بهذا الهم الذى لا هم يفوق خطره، حتى لو كان هم العيش وضرورات الحياة.
لقد ظلت الفتوى ولا زالت يُعهد بها فى عالَمنا العربى والإسلامى لأهل العلم والنزاهة والتجرد والأمانة على أحكام الدين، وكانت دور الإفتاء هى الجهات الوحيدة التى يعرفها الناس، ويطرقون أبوابها كلما حزبهم أمر البحث عن حكم الله تعالى فيما يطرأ لهم من شؤون الدنيا والدين، وفيما يرغبون ان تستقيم على هديه حياتهم ؛ إبراءً للذمة، وطمعًا فيما عند الله.
ويحدثنا الإمام الطيب عن تجربته حين اختير مفتيًا للديار المصرية، وكيف استقبل هذا الإختيار مفكرًا مترددًا، خوفًا من أن يحل حرامًا، أو يحرم حلالاً، ولم يكن التأهل الفقهى هو الذى يقلقه، فقد تعلم على يد علماء كبار موسوعيين، تولوا رعايته وأترابه رعاية علمية فى الأصول والفروع، وبخاصة فى مادة الفقه، وتلقوا فى بداية ستينيات القرن الماضى بكلية أصول الدين عن العلامة الإمام محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى، مادتى الأحوال الشخصية وأصول الفقه، وقد تلقيت شخصيًا عنه بكلية حقوق القاهرة بمنتصف خمسينيات القرن الماضى، وكان رحمه الله دوحه تحف بالعلم والفكر.
كانت هذه الخلفية الفقهية والأصولية ولوازمها من العلوم الأخرى التى يدلى الإمام الطيب بانهم أسندوا إليها ظهورهم فى مقتبل العمر وهى التى شجعته على قبول مهمة الإفتاء، وقد تبين له أن أغلب الأسئلة مما تسهل الإجابة عليه، وأن بعضًا منها لا يمكن أن يستقل بالإفتاء فيه مُفتٍ واحد، مهما بلغ حظُّه من الإحاطة بعلم الفقه والأصول ؛ مثل: مسائل البنوك، ونقل الأعضاء، وبنوك الدم، والحقن المجهرى، وتحديد الجنين، وغير ذلك.
ويحدثنا بأنه كان يناقش ما يرد من هذا النوع من القضايا فى جلسات مجمع البحوث الإسلامية، وأنا شخصيًا شاهد على ذلك، حيث يتوفر له من اهل الإختصاص ما لا يتوفر لدار الإفتاء ؛ كالأطباء، ورجال الإقتصاد والبنوك، وعلماء الهندسة الوراثية، وأساتذة القانون، وغيرهم، ثم يعتمد الرأى الذى ينتهى إليه المجلس.
ويروى الإمام الطيب أنه فى تلك التجربة، التقى بصحبة المرحوم الإمام الأكبر الراحل، الدكتور / محمد سيد طنطاوى، بالمرحوم المستشار / فاروق سيف النصر وزير العدل آنذاك، وهو يخشى أن يتلقى منه توجيهات من النوع الذى يتهامس به الزملاء وغيرهم، إلاَّ أنه فوجئ به رحمه الله يقول له وهو يسلمه القرار: قل ما يُرضى ضميرَك، وما يخلصك من المسؤولية أمام الله تعالى، وقد أبرأنا ذمتنا باستلامك هذا القرار.
ويشهد الدكتور الطيب بانه تولى مهمة الإفتاء عامًا ونصف العام، يعمل فى حرية مطلقة وحَيْدة تامة، وفى احترام واضح من المسؤولين، ومن الناس، ومن الصحافة والإعلام، حتى أبتلى أهل العلم الصحيح وأهل الفتوى فى هذه الأيام بنوع من الضغط والمضايقات لم يعهدوه، وذلك بالهجوم على تراث المسلمين، والتشويش عليه من غير مؤهلين لمعرفته ولا فهمه، لا علمًا ولا ثقافة، ولا حسن أدبٍ أو احترامٍ لأكثر من مليار ونصف المليار ممن يعتزون بهذا التراث، ويقدرونه حق قدره..
ولم يَعدم هذا الهجوم المبيت بليل دعاوى زائفة، يغلف بها للتدليس على الشباب ؛ كدعاوى التنوير، وحرية الإبداع، وحق التعبير، بل حق التغيير، حتى لو كان تغييرًا فى الدين وشريعته..
وأصبح من المعتاد المتكرر: اقتطاع عبارات الفقهاء من سياقاتها ودلالاتها ؛ لتبدو شاذة منكرة، يَنبو عنها السمع والذوق، قبل أن تبث فى حلقات نقاشية، تلصق من خلالها بشريعة الإسلام وأحكام الفقه ما ليس فيهما، عبر حوارٍ ملؤه السفسطة، والأغاليط، والتشويش، والخطأ فى المعرفة، والعجز عن إدراك الفروق بين توصيف الفعل فى ذاته، والآثار الشرعية المترتبة عليه.
وإلى هنا يبدو أمر هذه الفوضى متوقعًا، إذا ما أخذ فى إطار الأعاصير العاتية التى هبت على منطقتنا، ودمرت منها ما دمرت، وأبقت ما أبقت حتى يحين قطافه فى أجندة
المدبرين.
ليس من الصدفة البحتة أن يتزامن، فى بضع سنوات فقط، تدمير دول عربية وإسلامية بأكملها، مع دعوات مريبة، تنادى بضرورة تحطيم هيبة الكبير واحترامه، وتنظر إلى هذا التقليد الذى نفخر بتنشئة أبنائنا عليه نظرة احتقار بحسبانه سلوكًا لم يعد له مكان فى ثقافة الفوضى الحديثة، مع خطة مريبة لتحطيم تراث المسلمين والسخرية من أئمته وأعلامه، وفى سعار جامح يعكس حجم المؤامرة على حضارة الإسلام.
يتزامن ذلك مع هجوم مبرمج على الأزهر، حتى أصبح من المعتاد إدانة الأزهر، وإدانة مناهجه عقب أية حادثة من حوادث الإرهاب، فى سعى بائس فاشل لمحاولة خلخلة رصيده فى قلوب المسلمين، وحتى صرنا نعرف توقيت هذا الهجوم الذى يتزامن مع إحدى حالتين ؛ الأولى: وقوع حوادث الإرهاب، والثانية: كلما أحرز الأزهر نجاحًا فى تحقيق رسالته فى الداخل او فى الخارج.
www. ragai2009.com