الشرق الفنان
(22)
يختم الأستاذ الدكتور زكى نجيب محمود حديثه عن الجانب الصوفى من الثقافة الإسلامية، بكلمة عن حجة الإسلام، الإمام أبى حامد الغزالى، ومن المعروف كيف بدا له فى سن الصبا أن يترك الأخذ بالعقائد والآراء تقليدًا لغيره أو محاكاة، وكيف أبحر فى البحث عن الطريق الحقيقى لتحصيل العلم اليقينى، فلما أعجزه ذلك وقع فى غمرة من الشك، حتى إعتراه المرض إلى أن شاءت عناية الله أن تنقذه من ضلاله، وتقذف بنوره فى قلبه، فأستعاد قواه، وبدأ التفكير والبحث من جديد، فكان أن هداه الله إلى كتب الصوفية التى وجد فيها طلبته، كما وجد فى طريقهم سبيلاً إلى الحق واليقين، وقد روى فى كتابه «المنقذ من الضلال»، وقد سبق أن حدثتك عنه وعن كيف حاكاه الدكتور مصطفى محمود فى كتابه الجميل «رحلتى من الشك للإيمان».
«أخذه الشك فنازعته نفسه وتجاذبته العوامل المختلفة بين أن أن يضحى بجاهة العريض وشهرته الواسعة ــ إذ كان أستاذ العلوم الدينية بالمدرسة النظامية ببغداد ــ وبين أن يخرج عن كل هذا إلى حياة الزهد والعزلة بعد ما أيقن أن «نيته فى التدريس غير خالصة لوجه الله… وأن كل ما فيه من العلم والعمل رياء وتخييل» فأدى به طول التردد وحدَّة الصراع النفسى إلى المرض، فالتجأ إلى الله، فأجابه الله وسهل على قلبه الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب، فترك بغداد وعاش عيشة العزلة عشر سنوات تعلم فى أثنائها التصوف لا عن طريق العلم والكتب فحسب، بل عن طريق العمل أيضًا، وأخيرًا عاد إلى طوس مسقط رأسه بخراسان بعد أن أستأنف التدريس مدة يسيرة ومات بها عام 1111م.
«يحكى لنا الغزالى إلى ذلك عن نفسه فى كتابه «المنقذ من الضلال»، وهو فى هذا الكتاب يميز بين مرحلتين من مراحل الطريق الذى وصل به إلى الله، أما المرحلة الأولى ــ وهى مرحلة الكشف الإلهى الذى نجاه الله به من غائلة الشك ــ فيقول فيها : «فأعضل هذا الداء، ودام قريبًا من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال، حتى شفى الله تعال ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال. ورجعت الضرورات العقلية مقبولة موثوقًا بها على أمن ويقين، ولم يكن كل ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى فى الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف؛ فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة فقد ضيق رحمة الله الواسعة» ــ والجملة الأخيرة من هذا النص هى خلاصة ما نريد أن نجعله علامة متميزة لثقافة الشرق الأوسط كلها، وهى أن ثمة طريقين للإدراك لا طريقًا واحدًا، أحدهما هو الأدلة العقلية المجردة، وذلك هو أساس العلم، والثانى هو اللمسة الذاتية المباشرة، وذلك هو أساس الإيمان وأساس التصوف وأساس الفن على حد سواء. واما المرحلة الثانية من مراحل توبته، ففيها يقول إنه بعد أن استعرض أقوال المتكلمين والفلاسفة، «… أقبلت بهمتى على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل ؛ وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله ؛ وكان العلم أيسر على من العمل فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم.. وغير ذلك من كلام مشايخهم، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع وظهر لى أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال، وتبدل الصفات ؛ فكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما، وبين أن يكون (الجسم) صحيحًا وشبعانًا ؛ وبين أن يعرف حد السكر وبين أن يكون سكرانًا ؛ بل السكران لا يعرف حد السكر وعلمه، وهو سكران وما معه من علمه شىء، والصاحى يعرف حد السكر وأركانه وما معه شىء من السكر… فعلمت يقينًا أنهم (أى الصوفية) أرباب أحوال لا أصحاب أقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته، ولم يبق إلا مالاً سبيل إليه بالسماع وبالعلم، بل بالذوق والسلوك…».
ويختم الدكتور زكى نجيب محمود هذا الفصل، بأن التجربة التى وصفها الغزالى وصفًا ينبض بالتجربة الوجدانية الحية، بين العلم العقلى بشىء، وأن يحيا الإنسان ذلك الشىء حياة حقيقية. هذه الحياة هى التفرقة أو قل المزج بين نظرة العالم وقوامها العقل والعلم والمنطق، ونظرة الفنان التى تستمد من القلب والوجدان. هاتان النظرتان اللتان تمثلت الأولى فى الغرب، والثانية فى الشرق الأقصى، واجتمعتا معًا فى الشرق الأوسط، حيث نجد المزج واضحًا بين نظرة العقل والعلم والمنطق، ونظرة الحدس والقلب والشعور والوجدان.
www. ragai2009.com