نقل الأعضاء بين الحظر والإباحة! (3)
ما تقدم الحديث عنه حقائق علمية يجب أن يعرفها الشرعى، وأن يعرف لفهم أساس المعضلة أن تتابع موت خلايا الجسم، يختلف من عضو لآخر تبعًا لمدة تحمله الحرمان من الأوكسجين والجلوكوز، فلا تتحمل خلايا المخ أكثر من (5) ق، وخلايا العضلات (45) ق، وخلايا القرنية (4) ساعات قد تزيد إلى (8)، وخلايا الكبد ساعتان، أما خلايا الجلد فتتحمل (24) ساعة، وخلايا العظام (48) ساعة، فإذا لم يؤخذ العضو ويحفظ قبل فوات هذه المدد تلف ولم يعد لنقله جدوى، وهنا تكمن المعضلة لطلاب نقل الأعضاء، وهى معضلة أعوص فى حالة القلب لأنه لا غناء فى أخذه إلاّ إذا كان لا يزال ينبض!
وينبغى تبعًا لذلك، أن يعرف الشرعى أن المخ قد يتوقف لسبب غير موت خلاياه، وقد يكون هذا السبب قابلاً للتدارك والزوال فيعود المخ إلى العمل حتى وإن فقد بعض وظائفه، كبعض حالات النزيف أو الجلطات أو الأورام، فلا يعتبر المخ ميتًا فى مثل هذه الحالات لبقاء خلاياه حيّة.
وينبغى والمعضلة كلها تثور حول جذع المخ، أن يعرف الشرعى ماهيته وموضعه ووظيفته، ووظيفته هى القيام بالعمليات الحيوية اللاإرادية التى تتم دون تفكير كالتنفس وخفقان القلب وضغط الدم، وتوقفه عن العمل يكون على إحدى حالتين : الأولى التوقف عن أداء الوظيفة مع بقاء خلاياه حيّة كما يحدث فى الجرعات الزائدة من المهدئات أو المخدرات، وهى حالة قابلة للشفاء إذا أسعفت فى الوقت المناسب. والحالة الثانية التوقف عن أداء وظيفته بسبب موت الخلايا. وهى موت حقيقى لا رجعة منه.
وينبغى للشرعى أن يلم أيضًا بأن مظاهر إصابة جذع المخ قد تختلط بمظاهر الغيبوبة العميقة رغم الاختلاف بينهما، فغيبوبة المخ قد تكون بسبب تلف فى خلايا « قشرة المخ » التى تحتوى على مراكز الوعى والحس والإدراك والتفكير والحركة اللاإرادية، وهى مراكز بعيدة ومنفصلة تمامًا عن «جذع المخ» المسئول عن القلب والتنفس، ولذلك فإن المصاب بمثل هذه الغيبوبة العميقة يظل يتنفس وقلبه ينبض تلقائياً ودون أية أجهزة معاونة، وهذه الحالة لا تعتبر موتاً، وبلا خلاف.
وهناك غيبوبة للمخ سببها تلف فى خلايا « جذع المخ » المسئول عن خفقان القلب والتنفس، فيدخل المصاب فى غيبوبة عميقة مقترنة بتوقف التنفس ولكن مع استمرار القلب فى الخفقان الذاتى للحظات قليلة يتوقف بعدها ما لم يسعف المصاب سريعًا بأجهزة التنفس الصناعى، فإن حدث استمر القلب أو عاد للخفقان وعادت الرئتان للتنفس، ومضى جريان الدورة الدموية، وهنا لب المعضلة ومكمن الاختلاف أو النزاع!
على أن إصابة جذع المخ لا تأخذ شكلاً واحدًا، فلها هى الأخرى حالتان مؤثرتان على وجه النظر والرأى، إحداهما تبدأ فيها الإصابة فى «جذع المخ» أولاً ثم يتلوها توقف القلب والرئتين، والأخرى أن يبدأ توقف القلب والرئتين (كما فى السكتة القلبية) ثم يتلوها موت جذع المخ. والحالة الأولى قد تكون لسبب عارض يقف عند حد بعض التلف أو العطب بجذع المخ يمكن بالعلاج شفاؤه أو تحسنه، فإذا توقف جذع المخ مع استمرار القلب والتنفس صناعيا، فإن توقف وظائف المخ لا يقترن بموت خلاياه ومن ثم لا تتحلل مهما طال وضع الحالة على الأجهزة الصناعية، وهذه هى الحالة التى تثير كثيرًا من اللغط والخلاف. أما الحالة الثانية البادئة بتوقف القلب والرئتين فإنها تنتهى خلال خمس دقائق على أكثر تقدير بموت خلايا جذع المخ لحرمانها من الأوكسجين، وهذا موت حقيقى نهائى لا رجعة منه بلا خلاف.
هذه العناصر العلمية يجب أن تكون حاضرة فى علم أهل الشرع، وأن يتمثلها الشرعى ويفهم أحوالها ومغزاها قبل أن يطبق أحكام الشرع تطبيقًا يصادف محله، على أن أحكام الشرع والقانون، لابد أن تكون حاضرة هى الأخرى فى علم وتقدير الطبيب، لأن المسألة وكما قالت فتوى مجلس الدولة ليست طبية فقط، تخضع فقط لتجارب وطموحات الطب، وإنما هى تتصادم بحقوق أخرى لأناس لهم حق الرعاية أمواتًا وأحياءً، ولها نتائج شرعية وقانونية تتعلق فى حالة الموت بحقوق ورثة وموصى لهم وثبوت أو عدم ثبوت الأنساب، فضلاً عن البعد الدينى والأخلاقى والمجتمعى.
استمعت قريبًا إلى واحد من كبار أطبائنا، تحدث بحرارة وحماس عن نجدة المريض الذى ينحاز له انحيازا استأذنته فى أن أسترعى انتباهه إلى أنه مع كامل التقدير لهذا الانحياز العلمى المشبوب أيضاً بالعواطف، فإنه لا يلتفت فى غمرة انحيازه وعواطفه، إلى الجانب الآخر الذى قد يكون حيّا اعتبر ميتا على خلاف الواقع، أو فقيرًا ألجأته الحاجة إلى بيع أعضائه متسترًا بتبرع يعلم القاصى والدانى أنه صورى يخالف الواقع الذى لم يرصد غنيًّا واحدًا تبرع بشىء من أعضائه لأحد خلاف ابنه أو أبيه أو أخيه!
والتوصيات التى صدرت سلفًا لمؤتمر مجمع البحوث الإسلامية الثالث عشر (12/3/2009) اتفقت فى جانب مع توصيات سابقة، ووسعت فى جوانب، وضيقت فى أخرى. فهى إذ اتفقت مع الفتاوى السابقة فى عدم جواز بيع الأعضاء وتحريمه وبطلانه شرعا إن وقع، وأجازت تبرع العاقل المختار غير المكره، إلاّ أنها أجازت التبرع بإطلاق للأقارب وغير الأقارب، وهى بذلك لم تخالف فحسب ما سبق تقريره من اشتراط القرابة، وإنما تفتح الباب على مصراعيه للبيع تحت مسمى التبرع الذى بالضرورة سوف يدعيه البائع والمشترى لتصوير النقل خلافًا للحقيقة على أنه تبرع لا بيع! وذلك يفتح أبوابًا لن تنغلق لتجارة الأعضاء سيما فى بلادنا التى تفشى فيها الفقر واتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء اتساعًا مخيفًا يهدد بتحول هذا التوسع إلى تجارة يتغول فيها الأغنياء فى مصر والمنطقة على المعدمين والفقراء والمحتاجين الذين سوف يبيعون أعضاءهم تحت ضغط الفقر والحاجة !!
www. ragai2009.com
[email protected]