من تراب الطريق (1064)

من تراب الطريق (1064)
رجائى عطية

رجائى عطية

7:44 ص, الأحد, 21 مارس 21

الكثرة والقلة

لا ينبغى أن نظن أن الكثرة عالة على القلة، ذلك أن وجود الكثرة ضرورى لوجود القلة المفكرة العالمة العارفة كضرورة وجود الأرض الخصبة لإنبات الثمار والأزهار والأشجار.. ويستحيل وجود هذه القلة وحدها وبذاتها دون محيطها الذى هو تلك الكثرة.. علما بأن ترقى الكثرة يزيد حتما فى تعداد القلة وفى تفوقها ونبوغها وأن تدهورها أو انحطاطها ينعكس على عدد ونوع الأذكياء والعلماء فيها فى المجتمع ويعوق تقدمهم وتطورهم.

والكثرة والقلة تعيشان معا على نفس الأرض وفى نفس المجتمع.. وقد زاد اختلاطهما واشتراكهما فى أيامنا هذه بصفة خاصة نتيجة ضخامة النشاط الصناعى والتجارى الهائل غير المسبوق..هذا النشاط الذى فتح على مصاريعها أبواب المصانع والمتاجر ووسائل الإعلام والإعلان والنقل والسفر والسياحة والترفيه والرياضة والتعليم والعلاج والتشييد والزينة.. وفتح فرص التقارب بين الجنسين فى الحقوق وزيادة فرص تلاقى أجناس البشر على اختلاف ألوانها وألسنتها وأوطانها على نحو لم يسبق له مثيل قط من قبل.. وإذا كان عالم الإنسان قد عاش دائما فى ماضيه على هذا النحو المختلط المشترك، مليئا بالإيجابيات والسلبيات، وتعرض لمحن فى أحيان غير قليلة عطلت أو أبطلت تقدمه لمئات السنين، فإن ما فى أيدى البشر الآن من الوسائل وما فى رؤوسهم من الأفكار وفى قلوبهم من العواطف قد أتاح للآمال العظيمة كما أفسح المجال للنكبات الهائلة فرصا لم يسبق لهم بها معرفة ولم يحسبوا له حسابا صحيحا بعد.. ومع كثرة الاكتشافات والمعارف البالغة العمق والدقة والأهمية ومع الاختراعات المذهلة العجيبة التى تدهش العقول، توجد هنا وهناك بلا انقطاع القلاقل والفتن والمذابح والتدمير والتخريب التى لا تكاد تهدأ فى مكان حتى تندلع أقسى وأعتى فى مكان آخر. ويبدو أن القادة فى العالم قد ألفوا ذلك كما ألفته الشعوب وأدخلوه فى اعتيادهم فلم يعد يفزع الآمن أو يخيف الباطش ويرده !

ولعل ذلك يرجع فيما يرجع إليه إلى كثرة الأمور والأشياء التى تشغل بال الآدمى غنيا أو فقيرا متعلما أو جاهلا كثرة لم يسبق لها مثيل فى أى عصر.. تلتهم كل حياته الواعية فى اليقظة والمنام.. بحيث أصبحت حياة كل فرد بلا تفريق أساسى، أسيرة تماما لتلك الشواغل التى لا ترابط بين بعضها وبعض فى معظم الأحوال.. إلا وحدة الذات.. وهذه وحدة مشتركة لا تميز فى مجال الوعى بين الجدى الهام وبين التافه أو الوقتى العارض قليل الجدوى.. وقوة تلك الشواغل قد استبدت فى مجتمعاتنا نتيجة طول الاعتياد وسعة الانتشار حتى لم يعد يوجد إلا نادرا من يرغب فى التعمق فى فهم ما يجرى ويتكرر أمامه ويكون قادرا على ذلك الفهم، إلا بصورة جزئية ولأمد غير طويل !!.. واكب سعـة انتشـار تلك الشواغـل التى لا آخر لها، سعة السطحية وقلة الثبات فى أفكار الأغلبية الغالبة من أهل هذا الزمان !

فقاعدتنا البشرية التى كانت تملؤها الألغام فى الماضى زادت الآن امتلاءً بها وبخطورتها كما زادت شعورا بالقدرات والخصوبة. وربما كان على كل عاقل الآن أن يلتفت أول ما يلتفت إلى توجيه قدراته إلى نزع وإزالة ما يتمكن من نزعه وإزالته من تلك الألغام.. لأن ذلك يقوى شعور الكثرة الكاثرة بخصوصيتها وإمكاناتها الإيجابية، ويثير فيها الاعتزاز بإيجابياتها والحرص على تنميتها وتهيئة الفرص لإنجاحها والوقوف فى وجه من يحاول تعويق تقدمها.

على أنه يجب أن نأخذ فى الاعتبار أن حضور الأفكار التى نعتبرها هامة أو أساسية فى الذهن يعترض مسيرها باستمرار أفكار صغيرة تفصيلية ليس لها بها علاقة تستهدف أغراضا صغيرة جانبية.. أحيانا تكون هذه الأفكار الجانبية غير مستحبة أو غير كريمة.. وهذا لأن تفكير الآدمى فى العادة، لا يكون فى لحظة حصوله نقيا مقصورا على الغاية التى نقصدها ونظن أنها هى وحدها التى تتوجه إليها أفكارنا.. بل الواقع أنه يصحب هذا التفكير أفكار أخرى متعلقة بأغراض معارضة أو مخالفة تحاول فرض نفسها على الوعى.. وقد نفلح فى مقاومة بعضها ولا نفلح فى البعض الآخر. ونحن من باب التبسيط نتجاوز عن الالتفات إلى باقى تلك الظاهرة من تعقيد وعن آثاره فى سلوك الآدميين ومبلغ إيقانهم وتمسكهم بقراراتهم.. لأن اعتقادنا فى الجزم بما نقطع ونجزم به أوسع وأقل دقة ومصداقية من حقيقة واقعه.. وربما كان هذا سمة من سمات طبيعة مخ الآدمى التى يبدو أنها ليست مستعدة للدقة التامة المطلقة.. وإن كانت تشتهيها كواقع وكمنتجع للمزيد من الترقى والرقى.

ومن قديم، لوحظت ظاهرة اعتراض النوايا والأفكار المخالفة وغير المستحبة أو غير الكريمة، مسار النيات والأفكار الخيرة الهامة فى وعينا، وتشعبت هذه الظاهرة إلى قوى شيطانية خارجية تقاوم عادةً بالاستعاذة التى تذكر الآدمى وتعيد وعيه إلى الإفاقة والانتباه لخبث وتسلل وخداع تلك القوى، وإلى نتائجها المخربة المدمرة لحياة الإنسان إذا استسلم لها.. ومازالت كثرتنا وقلتنا فى الأغلب الأعم تلجأ إلى الاستعاذة الآلية التى قليلا ما تجدى لأننا جميعًا كثرة وقلة لا يوقظنا إلا نمو الثقة والفهم وصحة الرؤية لمسيرتنا واعتزازنا الجاد الفعلى بها وعزمنا خاصة وعامة على السير معا تلك المسيرة المشتركة نتيجة لتوفر صلاحيتنا وقدرتنا جميعا على التزامها والمحافظة على اطراد نموها وتقدمها وتطورها.. وعندئذ أعتقد أننا نكون أصدق تديناً وأصح اعتقادا للديانات التى ننتسب إليها وأصلح بها مما نحن عليه الآن.. لأنها صارت بذلك جانبا أساسيًّا جوهريًّا من جوانب تلك المسيرة المشتركة التى جمعت الكل فى كل مجتمع.. وأصبح على هذه المجتمعات أن تواجه المستقبل غير المخوف إلا من المعقول باطمئنان وثقة واعتزاز إلى ما ينتظره من الرقى والتقدم.. وخاصة العدالة بين الكثرة وبين القلة التى أدت قلة الالتفات إليها فى قلوب أو عقول البشر إلى المخاطر الماضية والمستقبلة فضلا عن المخاطر الحاضرة التى تشعـر بها فى كل مكان!

www. ragai2009.com

[email protected]