إرادة وفكر الآدمى بين الجمود والتطور
(6)
قلما عرف البشر حتى يومنا هذا بعضهم ببعض معرفة وطيدة حتى فى إمعانهم فى القرابة إلى حد الأمومة والأبوة . فالوالدان يغاليان بالمولود عادة ـ حبًّا وتعلقًا وخوفًا ورجاءً دون إدراك حقيقى وفهم عميق يواكب مراقبة الوليد فى نموه مراقبة مبصرة متبصرة تكفل اطراد واستقامة تربيته قدر التفاتهما ويقظتهما إليه فى احتياجه الشديد إليهما.. هذا الاحتياج الذى لا يغنى عنه المربية والمعلم كما يظن عادةً الآباء والأمهات القادرون!.. فالفراغ المتروك أو الخالى من الالتفات الجاد من الأب والأم إلى العناية الصادقة بحاجات ومطالب الطفل والصبى ذكرًا كان أو أنثى فى أوائل حياته.. هذا الفراغ هوة وضلالة يحمل الوالدان ما عاشا إثمهما من التخلى والاستخفاف والأنانية وعدم المبالاة والاتكال على خدمة الغير بالأجر والاحتراف!
ومنذ قرون انقسمت الشعوب إلى خاصة تحكم ومعها أثرياء يتصلون بهم ويتعاملون معهم وينتسبون إليهم، وأعوان دون أولئك يعيشون ويموتون فى خدمة هذه الخاصة، حكامها وأثرياءها، وإلى عامة تضم أغلبية المحكومين الكادّين فى زراعاتهم وصناعاتهم وتجاراتهم وحرفهم وأسواقهم وأسرهم فى الحواضر والقرى والنجوع.. قلما يغادرون عمومهم ومحكوميتهم وجيرتهم ويسرهم وعسرهم الدائم الاختلاط والبساطة والقربى التى لا تحتاج إلى تكلف أو تصنع أو غرور أو ادعاء.. وهو ما يعتاده المغامر فى مغامراته لينتقل إلى طبقة أعلى من طبقة العامة المحكومين إلى طبقة تمكنه فى نظره من الصعود إلى ما يشاء إن لم يخنه الحظ أو تخنه المقادير!!
وبرغم الويلات التى شهدتها البشريـة وملايين القتلى وملايين الموتى ـ فى الحربين العالميتين 1918/1914 و1945/1939ـ فإن عدد سكان الأرض قد زاد فى زماننا إلى مزيد هائل لم يبلغه من قبل أى تعداد سابق بفارق واسع عن الأموات.. قد ماجت به الآن المسكونة وزاد ضغطه أضعافًا ـ شدةً وعنفًا ـ فطوت هنا وهناك قوى الطبقات السابقة التى كان بيدها القيادة العليا فى الماضى.. فلم تعد القيادة العليا على حالها متمكنة واثقة كما كانت ـ بعد أن تخللها بغير انضباط ودون حساب ـ أمواج من العوام وأبناء العوام.. منهم من ركب بالثراء الجديد غير المضمون ـ ظهور معظم القيادات الآن.. لم يتركوا ماضيهم ولن يتركوه لأنه وليد حظهم وغرابة عصرهم وعجائب زمانهم ودهشة تقاربهم وتفرقهم كما لو كانت دنيا الآدميين قد دانت عنوة للأغنياء الجدد بعد انطماس ماضيها كله!.. قامت وتقوم دنيا هؤلاء على خرافة وخيال وغليان ملايين الأمم وأحقاد وألاعيب وأكاذيب وخبائث لا أول لها ولا آخر فى عالم يومنا وغدنا!. لم يعد يرى معظمنا فى كل مكان ـ إلاّ البطالة والعوالة والعلق والضيق والمتاعب والشدائد والبؤس واليأس.. كل شىء فى غير مكانه وائتمانه واتزانه.. يعيش أغلبنا الغالب فى أزمات لا تنقطع بين لقمة وصرخة وصيحة وضغنة وعثرة وغضبة.. لا خير يحل على خير أو سعة على سعة أو فرج يؤكد فرجًا سابقًا ويقوى تتابع الثقة والإيمان به وفيه.. الكل الآن يعانى ولم يعد أقوياؤه يخفون متاعبهم التى كان قد أخفاها عدم الالتفات والإهمال والأمل الكاذب فى العثور على علاج فى جزئية أو أكثر من العلاجات التى يلجأ إليها هنا وهناك هؤلاء وأولئك من المتعرضين للمعالجات أو المجازفات!
من سنوات يعيش العالم فى أزمات.. يركب بعضها بعضًا ويدفع بعضها بعضًا.. ينطلق فيها من الغالبية الغالبة غضب وخوف لم يسبق لهما مثيل ولا حدود له ولا قيود.. جرى ذلك لأن الناس فى عمومهم قد عاشوا غرقى الضياع والخيبة والقنوط واليأس.. لا يحاولون شيئًا ناجعًا إلاَ فقط بالكلام والخصام والتخبط والتعصب والأنانية واليأس من النجاة الذى صار وكأنه شمل البشر جميعًا.. يحسه الغنى قبل الفقير.. والمتعلم المتشكك أكثر من الجاهل المتنقل باستمرار بين الهياج والتصفيق ، وبين إساءة الظن والتمرد والتقلب والعناد والمقاومة.. وأحيانًا الثورة أو الثورات!
لم يعد يملأ معظم البشر ثقة ولا أمل فى الحاضر والمستقبل.. إذ لم تعد هناك ثقة فى شىء ثابت فيما معنا.. أغنياء وغير أغنياء ـ يمكن أن يعتمد عليه الصغير أو الكبير.. اليوم أو الغد.. إذ لم يعد فى الوسع اليوم ـ قيادة أغلبية البشر بيسر وسلاسة كما كان ذلك معتادًا وممكنًا فى الماضى إلى منتصف القرن المنصرم.. جمد الناس على ما اعتادوه، ولم يترتب على نمو السعى المتزايد باطراد للاحتكاك والانتفاع والاستفادة الكاملة بما فى الأرض ـ لم يترتب عليه الخروج من زقاق الجمود إلى آفاق رحبة تتيح للإنسانية ـ بدل الشقاق والاقتتال ـ مزيدًا من خيرات الكون التى نغضى عنها بعد أن اكتشفنا ما فيه من منافع وخيرات لا تنفد، بينما الآدمى محصور فى أفقه الضيق وفكره الجامد وحركته الشليلة، لا يتطلع ولا يسعى بتفطن إلى ما أتاحه الله تبارك وتعالى له من خير عميم فى هذا الكون الواسع العظيم!
www. ragai2009.com