آفة العناد، وطريق الحق
(4)
إن حياتنا هنا ـــ فى هذه الدنيا ـــ وهذا يوقنه كل منا فى يقظته ونومه.. هذه الحياة الدنيا كلها حركة مطردة تنساب داخلنا من لحظة شعورنا بالوجود إلى لحظة مفارقتنا له.. يمر بها الاندفاق والارتخاء والإسراع والإبطاء.. نقيضها فى وعينا، هو السكون النهائى الكامل الذى يعقبه التحلل ونسميه جميعًا بالموت تعبيرًا عن انعدام الحياة. ووجود هذه الحركة المطردة، فى الحياة الأخرى غامض الصورة جدًا حيث لا يوجد هناك موت ولا يوجد اختيار وتنقل بين النقيضين المشاهدين الآن بين الصحة والمرض والشباب والشيخوخة والصواب والخطأ والخير والشر حتى لا يكاد يوجد ثمة اختيار على الإطلاق بمعناه الدنيوى، وذلك لغياب الاحتياج إليه. فالحياة إذ ذاك تتغير تغييرًا أساسيًا فى معناها ومبناها عن حياتنا الحالية كما نعيها فى دنيانا ــــ ويتعذر علينا فهمها ولو جزئيًا مهما كان حظنا من الإيمان بها وافرًا.. فصلاح الصالحين إذ ذاك لا يشوبه احتمال خطأ أو حقد أو حسد أو أى وجه من وجوه الشر.. وعالمهم عالم خيرات صرف لا يحتاج لإصلاح أو تقويم أو تقوية، ولا يدفعهم فيه دوافع الإحساس بالنقص والرغبة فى المزيد من النمو والارتقاء من الكمال الذاتى الذى نتنافس عليه هنا لإرضاء الذات وإشعارها بالتفوق والغنى والقوة بالنسبة إلى الغير فى دنيا تهدد أبناءها بالنوازل الخاصة والعامة ولا يقر أو يستقـر بها سـلام أو أمن !. فضد هذا وقسيمه سلام الآخرة الأبدى الشامل للصالحين جميعًا الذين يملؤهم الرضا ولا يترك فى أى منهم مسافة يحمل فيها غيرةً أو سخطًا أو حزنًا أو إحساسًا بالصغـار والقصـور!.. وذلك غريب غاية الغرابة فى حياتنا الدنيوية نحن ومن سبقونا ، فى هذه الدنيا. ذلك السلام الأبدى الشامل يمحو معنى الزمان والمكان الذى نعيه على هذه الأرض محوًا تامًا يكون خاليا من أى ذكر لماضينا ذلك الدنيوى.. فكأن ذلك السلام سيقطع قطعًا باتًا تاريخ كل حىّ، ويصبح بعث كل منا فى الآخرة ميلادًا جديدًا من كل وجه مجردًا من الوراثات والأبوَّات وآثار ومتعقبات النواميس الكونية كافة.
والارتباط الوثيق جدًا بين إحساسنا بالذات وبين شدة احتياج كل منا للاهتمام بحاجاتها ومطالبها وحاجات ومطالب من هم فى حكم الذات كالزوجة والأولاد، أساس لإحساسنا العنيف بوجود حياة خاصة لكل منا تقوم عليها القرابات والعلاقات الأسرية بخصوصياتها.. وهذا كله ليس له موضع ـ فيما يبدو ـ فى حياتنا الآخرة حيث السلام الأبدى الشامل الخالى تماما من الضرورات والاحتياجات والهموم والاهتمامات الخاصة والعامة. إذ تحل قرابتنا العامة فى الخالق وللخالق، تحل قرابات وحاجات كل منا لذويه واحتياجه لكفالته لهم واهتمامه بهم، فلا نعود فى الآخرة إلى اللهفة بلقاء الأقارب والأحباب والأصدقاء، لأنها تكون قد ماتت مع موتنا وتركنا لهذه الدنيا. حيث إنها من ضروراتها ولوازمها وزينتها ومفاخرها فى المكان والزمان.
وفى ذلك السلام الشامل الأبدى لا يبدو أى معنى للغات البشرية التى هى على نحو ما ثمرة تعرضنا للجوع والعطش والمرض والحرّ والبرد والاستغاثة والخوف والغضب والحقد والحسد، وتفادى العرى والقذارة والغفلة والكسل والنوم والضعف والنقص والغلط والخطأ والإثم. كما لا يبدو أى معنى للأصوات التى هى فى الغالب أدوات اتصال بين أحياء كانوا فى الدنيا ثم تركوها.
نُوعَدْ فى ذلك الإطار بدوام واطراد النوايا الراضية الشاكرة الخيرة الطيبة دون معكّر.. لا يقابلها شىء ينقصها ويحتاج إلى أداة للتعبير عنه وعن ردود أفعال بالنسبة إليه.. إذ لم يعد للشعور بالنقص أو الاحتياج مكان فى أى وعى لأى مخلوق، ولم يعد للشعور بالغربة أثر يمثل قوة أو ضعفًا أو تقدمًا أو تأخرًا أو يسارًا أو عونًا أو كمالاً أو نقصًا.. بل يصير الوعى وعيا يملؤه الأمن بكامل الفهم والرضا لا يشوبه أى أثر لإحساس بالاحتياج أو المشقة.
والجانب الآخر السالب بعد البعث برغم إزعاجه البالغ لكل من أخبر به، لا يكوّن امتدادا بأية صورة لحياة أى آدمى هنا مهما كان شره.. لأن الدنيا تنهى آلام البشر جميعًا بالغة ما بلغت بالموت الذى يُوقف جريان تيار الحياة فيه مؤلمًا كان هذا التيار أو غير مؤلم. فالجحيم أصداؤه فى وعى الآدميين هائلة لكنها غير قابلة للتمثيل البشرى. ومن هنا جاء فى الأثر أنه لا يبقى فى الجحيم من كان فى قلبه ذرة من إيمان.
www. ragai2009.com