بين لعب الدنيا ومعنى الحياة
(3)
لم يعد الريفى يبقى أولاده أو أحفاده إلى جانبه إلاّ نادرًا.. فقد انصرف مهتما شديد الاهتمام إلى تعليمهم التعليم الوافى لكى يعيشوا فى المدينة أصحاب مهن معترف بها.. هكذا فكك الريف تكوينه القديم فى أقل من خمسين سنة لأغراض فردية شخصية صرف.. لم يحاول الريفى قط تقليب الرأى فيها ـــ فزج بمن معه فى تيه عميق لا أول له ولا آخر لا يعرف كيف يمكن أن يبقى فيه أو يخرج منه إلى ما هو آمن إن وجده، فغطت الوقتية السطحية الضيقة جدًّا نبت سنتها أو فصلها أو موسمها حياة البشر.. ثم اختفت غير مأسوف عليها إلى ما نسميه الجديد أو الحديث أو المبتكر الذى لا يقف تواليه إلاّ إذا عم الكساد والبطالة وأحس الكل بالضيق أو الاختناق فى الأزمات العامة وأحيانًا مع المصائب والنكبات والنهايات!.. فنحن قد فقدنا نهائيًا من سنين ليست قليلة ـــ معانى الثبات والإيمان والاعتقاد ومعها الاتزان والاستقرار والثقة فى المستقبل الذى ننتظره.. ربما يشعر بعض طوال الأعمار الآن بغرابة من هم فى الدار أو فى الطريق أو فى السيارة أو السفينة أو الطائرة.. إذ لم يعد فى إمكانهم هضم وتمثل نوع الحياة الحاضرة ومبلغ سطحيتها ووقتيتها، برغم ما فيها مما لم يسبق له مثيل فى ماضى البشر من الكثرة الكاثرة من القارئين والكاتبين والمعلقين والمتحدثين والناقدين والمؤلفين والشارحين والمفسرين والملخصين والمترجمين والصحفيين والإذاعيين وأكابر الفلسفة والعلم الوضعى أو الدينى وأصحـاب الشهرة فى الفنون والآداب بألوانها وأنواعها حديثها وقديمها..
إذ غزارة هذه الفئات وفيوض نواتجها التى لا تنقطع ـــ لم تنجح قط فى ضمان المحافظة على ذلك التماسك أو الترابط النسبى الذى كان يجمع من قبل جماعات البشر كل منها فى نطاق حدودها ورعيتها، ويحدد لكل منها الأصدقاء وغير الأصدقاء من أمثالها ومن حيث الزمان والمكان والقدرة المتاحة والاستعداد الذى لا غنى عنه.. فإذا كان ما معنا اليوم من مظاهر الحضارة ومعالمها جسيمًا جدًّا ليس له من قبل نظير، فقد باتت الآن أعماق هذه الحضارة وأركانها وقواعدها هشّة واهية الأسس عرضة للانهيار فى أى وقت!.. هذا الانهيار يتناساه الناس فى هذه الأيام وأمثالها عامدين إلى المغالاة فى الإكثار من التحرك والتنقل مع الإسراف فى لغو الحديث واختلاقه كلما سنح الاختلاق مع الإمعان فى الأخذ والإقلال فى العطاء، وفى التباهى بسهر الليل فى اللهو على بدار النوم فى العشاء لانتظار الفجر والكد والجد كما كان يفعل الفلاح فى الزمن الفائت، وبالازدحام الهائل غير المسبوق من جميع الطبقات على ملاعب الرياضة ومسارح الكوميديا والأسواق والشواطئ، مع سهر الأسر بأسرها إلى آخر الليل فى مشاهدة ما استجد من أنواع وعجائب التليفزيون والإذاعات.. بلا مبالاة بمطالب النهار وضروراته وواجباته وأعبائه ولوازمه وأعماله، أو اكتراث بما يفرضه هذا اللهو من النفقات التى لم تعد تقف عند حـد فى جميع المستويات.. إننا بعامة لم نعد نعرف معنى المبالاة !.. وهذا بلاء أى بلاء سندفع جميعا ثمنه حتمًا إن عاجلاً أو آجلاً.. ما لم يطرأ علينا ما يحملنا حملاً على الإفاقة واليقظة!
جميع الآليات التى ظهرت فى زماننا هذا بكثرتها الهائلة وغرائبها وتهافتنا بغير دراية على استعمالها أو امتلاكها ومسارعتنا إلى استبدالها بالجديد، فضلاً عن المكتشفات العميقة التى توالت هنا وهناك يزاحم بعضها بعضًا فى رؤانا وانبهارنا بها.. كلها تخاطب فى الواقع خيالنا فى أغلب الأحيان قبل عقولنا وفهمنا.. يستغلها أصحاب الأموال والأعمال والمعامل والمصانع جريًا منهم وراء المكاسب العاجلة المتدفقة مع انسياب الآمال والأحلام لدى الجمهور المتعطش لما لم يعرفه، المستسلم لبيانات وأوصاف وإرشادات وفوائد ومنافع لأشياء ونتائج وآثار لم يجربها قبل أن يتقبلها ويستعملها استسلامًا أو امتثالاً أو تقليدًا وخوفًا من أن يسبقه فيها آخرون يعرفهم أو لا يعرفهم.. إذ البشر بعامة لم تعرف قط إلى اليوم شيئًا كائنا ما كان أو يكون ـــ بدقة تامة لا تنقص ولا تزيد، كمـا لـم تعـرف قـط حتى الآن شيئًا كائنًا ما كان حتى «الذات» التى لم تعرفها بيقين أو صدق لا يشوبهما أى خيال أو وهم أو غموض!.. معظم البشر يحمل بشائر ووعودًا أو آمالاً أو يحمل شكوكًا أو مخاوف أو نذرًا بكوارث.. فهذه وتلك يداولها أى آدمى قلـة أو كثـرة أو توازنًا ماعاش.. ويندر أن يعيش عمره كله على الأمل وحده أو على اليأس فقط.. وهذا التأرجح الملازم فى تصورات كل آدمى لِخُطَى حياته ومساراتها، له آثاره الحتمية فى تركيب كيانه البدنى والمعنوى، وفى تركيب علاقاته البشرية كلها.. من الأسرة الصغيرة إلى الجماعة والأمة.. وهذه معرضة هى الأخرى لآثار قريبة الشبه أوسع نطاقاً وأبعد مدًى وأسرع تنقلاً وانتشارًا وامتدادًا وتعرضًا لكثرة الإضافة أو التغيير الذى لا يُعرف منشؤه.. وقد أدى ماضينا الطويل جدًّا فى نظرنا جميعًا إلى استقرار أصول تلقيناها ممن سبقونا كما تلقوها هم أيضًا من أسلافهم بالقبول والاتباع والالتزام.. لا يتصورون وجود غيرها أو القدرة على تعديلها أو تغييرها. ولم يكن من ذلك بد لأن الكل مخلوقون فانون فى كوكب صغير توالى فيه بغير انقطاع الوجود والعدم فى البشر كما فى سائر الأحياء.
www. ragai2009.com