بين لعب الدنيا ومعنى الحياة (2)
بتنا نرى معظم الناس لا يكفون لحظة عن التخبط والتنافس والتحاسد والعراك !.. لا ندرك أننا برغم ما نتيه به مما نسميه الحضارة المتقدمة الهائلة التى لم يسبقها سابق ــــ ما زلنا فى أوائل الحياة.. نحياها جزئيًا متخبطين فى باطلها.. لم نقو بعد على تركه لما هو أعقل وأقوم وأجدى.. ننتظر طويلاً ـــ يداخلنا اليأس ــــ مجىء النضج وكمال اليقظة واستعدادنا للاندماج فى الكون العظيم الذى سبق وجودنا بما لا أول له فى حسابنا!
نعم لم يترك البشر خداعهم لأنفسهم قط منذ وجدوا على هذه الأرض.. إنما لونوه باستمرار بما ظنوا أنه يجارى توالى الأوقات والأزمنة والأجيال المتعاقبة فيهـم، وتصور جميعهــم تقريبًا أن هذا التلوين أو التغيير السطحى الوقتى ــــ من مسيرة الحياة ــــ لازم ملازم لا يحتاج بين وقت وآخر إلى التأمل والمراقبة والتعديل والتصحيح.. ولذلك بقيت إلى اليوم جماعة البشر جماهير منفصلة عن خاصتهم من سادة وأغنياء وحكام وقادة وزعماء.. دون مشاركة فعلية عميقة جادة دائمة مسلم بها.. مشاركة غير مصحوبة بانفصال وتباعد وتسيد الخاصة على العامة، وغير مغموسة بتسليم وإذعان وحقد العامة على خاصتهم.. فكل جماعاتنا المتقدمة والمتخلفة مختلة الأساس الذى كان يبدو قويًا فى الماضى.. وتتعايش كل منها تعايشًا سطحيًا كلاميًا أكثر منه فعليًا.. بات بسبب تيقظ العامة لحالهم ولحال وتباعد وتسيد واستعلاء الخاصة ــــ سريع الحساسية شديدها.. متبرمًا بتميز الخاصة الواضح وثقله وقلة أو انعدام إنصافه!
فانتشرت فى عصرنا الأحزاب الديمقراطية والعمالية والاشتراكية والشيوعية والفوضوية.. ترفع بصفة خاصة رايات الطبقات العامة، بالإضافة إلى الأحزاب المحافظة التى تتميز عادة بانتماء أصحاب الأموال والأغنياء والملاك.. ويتبادلون فيما بينهم فى المجالس والصحف ـــ ألوان الانتقادات والمناقشات الحادة.. وأحيانًا الاتهامات والخصومات والعداوات.. كلٌّ يبرز بكل وسيلة وصورة ممكنة فساد أو عجز أو أنانية أو جشع غريمه أو غرمائه من الأحزاب والطوائف الأخرى.. غير مبال بصيانة وحدة وسلامة الجماعة الكلية التى ينتمى إليها الكل موسرًا وغير موسر !
هذا السلوك الذى بات الآن مألوفًا فى كل جماعة بشرية، سلوك مخرب فى النهاية.. لم يفطن ـــ وإن بدا سائغًا مشروعًا ـ إلى مغبة هذه النهاية الشقية لأغلب عامة الأمة ولأغلب خاصتها.. حلا للفريقين الاعتياد على العراك سرًا وعلانية.. دون أية فرصة لسلام حقيقى نقـى وصحيـح بينهما.. لأننا ـــ دائمًا ــــ لا نعنى بتوخى الدقة فى أحكامنا حتى فيما بيننا وبين أنفسنا.. لأن الدقة حيدة وتعقل وتأكد واستيثاق ـ مضادة للرغبة والهوى وللتسرع والاندفاع!
ويبدو أن رحلات مكوك الفضاء، عمليات كلها دقة وتنقيب وفحص وحساب.. يتبادلها بغير انقطاع مَن فى المكوك بالفضاء ومَن فى المرصد أو المعمـل على الأرض.. فـى الولايات المتحدة أو فى روسيا أو إنجلترا أو فرنسا وغيرها.. وهم رغم قلتهم يتكاثرون يومًا بعد يوم، ولكنهم يحتفظون جميعًا بعادات وتقاليد ومشارب وعلاقات محيطهم.. أى بالآدمية المألوفة لغالبية القوم والجماعة.. فتأثيرهم على مجتمعهم وعلى أنفسهم ما زال محدودًا بحدود هذا العمل وتكاليفه وواجباته.. وهذا العمل من هذه الناحية يشبه أعمال المنقبين عن المناجم والبترول والغازات فى أعماق اليابسة والبحار بفارق التعرض المستمر لزيادة الضغط الجوى فى الفضاء الواسع الكونى.. لذلك لا نحس فى المجتمعات الحالية بأى انقلاب بشرى هام جاد يقظ.. بل يشعر معظمنا فى الجماعات المتقدمة أو فى غيرها ـ بالضياع والحيرة والغضب واليأس من حاضرنا ومستقبلنا على السواء !
إننا اليوم شديدو التعلق والولع بالألعاب الرياضية وساحاتها ونواديها وشركاتها المحلية والدولية لانكباب كافة الشعوب عليها خاصتها وعامتها.. كبارها وصغارها.. وتحولت الرياضة إلى استغلال اقتصادى ومالى وتجارى هائل جدًّا يشغل أرباب الأموال والمضاربين والسماسرة والصحف والإذاعات والمجلات، كما يشغل بال الأحزاب السياسية والحكومات فى محاولة الجميع اجتذابها وتوجيهها.. بل واستخدامها فى الولاء والانتماء.. وفى إبعاد الشباب وجماهير الشعوب عن الاهتمام والالتفات لما يمكن أن يروه ويعرفوه ويفطنوا إلى أخطاره وأضراره من أسباب وصور الخلل العميق جدًّا فى حاضرنا بأسره.. هذا الحاضر الذى من آثاره انتقال معظم أهل الريف منذ النصف الثانى من القرن الماضى إلى المدن.. مفضلين إياها مع جحيم العشوائيات ــــ على الزراعات وتربية الحيوان وتقارب وتعارف الأسر وضآلة الجديد وبعد البعيد.. تشدهم زحمة المدن وصخبها وحركتها الدائمة وفرصها التى لا ينقطع فيها مختلف الأرزاق والفرص والحظوظ للأفراد جميعًا من شتى الأعمار.. ذكورًا وإناثًا بلا استثناء. فيما لا قيد عليه.. وبذلك لم يعد للريف قدامى أهله بجدهم وكدهم، وانتقل منه الكثير ـ بالتدريج السريع ــــ إلى الشركات وأصحاب الأموال.. يديرون عمالهم وسماسرتهم لأغراض لا تخص الريف ولا تعنى به. فلم يعد الريف الآن فى واقعه أرض الأبناء والآباء والأجداد، إذ انتهت إلى غير رجعة ــــ عاداته وتقاليده وبساطته أو سذاجته التى كانت مألوفة مئات السنين.
www. ragai2009.com
[email protected]