فى عمق التاريخ، ينبثق مصطلح «البنك» من الكلمة الإيطالية «بانكو» التى تعنى المصطبة، حيث اعتاد الصرّافون الوقوف لتغيير العملات، ليتطور هذا المفهوم البسيط ويصبح أساساً للنظام المالى العالمي.
فى القرن الثامن عشر، ظهر أول بنك عرفه العالم عندما تم الإعلان عنه فى مدينة البندقية عام 1517، إلا أن التطور الهائل وانتشار المصارف فى أنحاء العالم كان مع بدايات القرن التاسع عشر، ولا سيما مع الثورة الصناعية فى أوربا.
روايات عدة حول الفترة التى ظهرت فيها البنوك على أرض مصر، وما أول مصرف عرفه المصريون، فما بين رواية حول تأسيس مصرف مصر بوصفه أول مصرف، وأخرى حول أقدمية البنك الأهلى المصري، كان لـ«المال» هذه الجولة فى صفحات التاريخ؛ للوقوف على تاريخ تأسيس هذا القطاع الحيوي فى مصر.
«البنك المصرى».. أول بنك عرفه المصريون فى عهد الخديو محمد سعيد
عملية البحث عن تاريخ البنوك فى مصر عبر مُحركات البحث ليست بالكافية للإجابة عن التساؤل الذى تسعى «المال» للإجابة عنه، إلا أن مقالًا نُشر فى إحدى الصحف القومية المصرية ذكر أن بنكًا تم تأسيسه فى عصر محمد سعيد باشا عام 1845 أطلق عليه البنك المصري، دون تفاصيل أخرى.
كل ما أوردته كتب التاريخ حول البنوك لم يحمل تفاصيل حول البنك المصرى الذى أُسس فى عصر محمد سعيد باشا، ولا رأسماله ولا توقيت إغلاقه، أو جنسية وعدد المساهمين، باستثناء أن مقره الرئيسى كان فى لندن، وتركَّز نشاطه فى تمويل عمليات التجارة المتبادلة بين مصر وإنجلترا، ليبقى البنكَ الأول الذى عُرف فى تاريخ مصر.
منذ تأسيس البنك المصري، وحتى عام 1878، لم تكن هناك أى تفاصيل حوله، حتى حملت جريدة الأهرام إعلانًا عن فتح فرع له فى محافظة الإسكندرية، حصلت «المال» على نسخة منه، جاء نصه: «لقد فتح البنك المصرى بالإسكندرية فرع أشغال تحت إدارة وملاحظة جناب الخواجا ميخائيل عيروط المحترم، ولا يرتاب بنجاح هذا المشروع لما لحضرة الخواجا عيروط من حسن الإدارة والسياسة، ولِما للجميع من الثقة التامة، وقد أصاب البنك المذكور كل الإصابة بتعيين حضرة الخواجا المذكور لذلك، والله الموفق»، وهو ما يعنى أن البنك المصرى ظلَّ حتى هذا التاريخ.
«باركليز» ثانى بنك فى مصر
بعد عام من تولى الخديو إسماعيل حكم مصر، وهو خامس حكام الأسرة العلوية، أنشأت بعض البنوك الأجنبية فروعًا لها فى مصر، كان أولها البنك الإنجليزى المصرى عام 1864 برأسمال مدفوع 500 ألف جنيه إستيرلينى، واندمج مع مصارف أخرى فى عام 1925 ليصبح اسمه بنك باركليز للممتلكات البريطانية المستقلة والمستعمرات.
البنك الإمبراطورى العثماني
النزعة الاستقلالية التى تمتَّع بها الخديو إسماعيل كانت كفيلة بدفعه للتفكير فى تأسيس بنك، وفى هذه الأثناء ظهرت عائلة «دى منشيه»، وهى إحدى العائلات اليهودية التى جاءت إلى مصر قادمة من إسبانيا، فى عام 1807، بوصفها واحدة من أهم العائلات التى تعمل فى حارة اليهود، حتى إن ابنًا لها كان يسمى يعقوب دى منشيه أصبح يعمل فى منصب «صراف باشا» الخديو إسماعيل.
الخديو إسماعيل وصراف باشا يؤسسان «الإمبراطورى العثماني»
يعقوب دى منشيه لم يكتف بالمنصب الذى منحه إياه الخديو إسماعيل، فطموحه التجارى كان هائلًا ليؤسس مع يعقوب قطاوي، أحد التجار اليهود، مؤسسة مالية وتجارية أطلق عليها «بيت منشيه وأولاده»، أصبحت فيما بعد تمتلك فروعًا فى ليفربول ومانشستر ولندن وباريس ومرسيليا وإسطنبول.
الإمكانات الهائلة التى كان يمتلكها يعقوب دى منشيه وقدرته على تحقيق أرباح جيدة من المشروعات، دفعت الخديو إسماعيل لمطالبته بالاشتراك معه فى تأسيس بنك، وهو ما تم بالفعل، ليعلن فى عام 1867 انطلاق البنك الإمبراطورى العثماني، تم تغيير اسمه فى عام 1925 إلى البنك السلطانى العثماني، وارتبط نشاطه بمشروعات عائلتيْ قطاوى ودى منشيه.
البنك السلطانى العثمانى لم يكن بمنأى عن الحالة التى وصلت إليها الدولة العثمانية، ليستمر فى العمل على أرض مصر حتى عام 1957، ولم يبق من أثره فى مصر سوى مبنى فى منطقة المنشية، التابعة لمدينة الإسكندرية، تحوَّل إلى مقر للشهر العقاري، التابع لوزارة العدل المصرية، وتخطط وزارة الآثار لضمِّه ضمن المبانى الأثرية.
الخديو إسماعيل رهن 365 ألف فدان للحصول على ثلاثة ملايين جنيه
لكن رواية أخرى حول سبب تأسيس الخديو إسماعيل البنك السلطانى العثمانى قالت إنه كان يُعرف بكثرة الاقتراض، حتى إنه حصل على قرض من بنك الأنجلو فى 1865 بلغ 3.3 مليون جنيه، ولم يقبض منه سوى 3 ملايين جنيه، ورهن فى مقابله 365 ألف فدان، فيما عُرف حينها بـ«الدائرة السنية الأولى»، وهو ما دفعه لتأسيس بنك.
افتتاح أول فرع لـ«كريدى أجريكول» فى مصر عام 1874 باسم «كريدى ليونيه»
لا يمكن لأى بنك فى العالم أن يهمل أو يتجاهل فكرة تأسيس فرع له فى مصر، فمع بداية ظهور البنك السلطانى العثمانى كانت بداية انطلاق بنك كريدى ليونيه، الذى أسسه السياسى والمصرفى الفرنسى هنرى جيرمان فى 1863 بفرنسا. وبعد مرور 11 عامًا، تم الإعلان عن افتتاح أول فرع له فى مصر بمدينة الإسكندرية عام 1874، أعقبه فرعين فى مدينتى بورسعيد والقاهرة.
سنوات عدة عاشها بنك كريدى ليونيه بوصفه أحد البنوك الكبرى فى العالم، لكن عاقبة سوء الإدارة حالت دون استمراره، ليتم الاستحواذ عليه ويتحول لاسم كريدى أجريكول الذى بات واحدًا من أهم البنوك فى العالم، بعدد عاملين تجاوز الـ150 ألفًا.
تأسيس بنك دى روما برأسمال 11 مليون ليرة
إيطاليا، بوصفها المؤسس الأول للمصارف، شهدت وجود العديد من البنوك، والتى سرعان ما اندمج أغلبها. ولعلَّ اندماج بنكى كازا دى رسبارميو دى روما الذى تأسس عام 1836، مع بانكو دى سانتو سبيرتو الذى تأسس 1605، كان الأبرز ليعلن فى 1880 عن اسم جديد وهو بنك دى روما.
«دى روما».. إستراتيجية للتوسع الإيطالى فى شمال أفريقيا
بلغ رأسمال بنك دى روما 11 مليون ليرة، وهو مملوك لـ6 من العائلات الإيطالية هي: «باتشيللى – مليونا ليرة، وتيتونى – مليونا ليرة، وسان جوليانو – مليونا ليرة، وكاستللينى – مليون ونصف المليون ليرة، ومالاكوزو – مليون ونصف المليون ليرة، وفالاسكى – مليونا ليرة»، وفق ما ورد فى مجلة مداد الآداب، على لسان المفكر الدكتور عصام خليل محمد.
إن نجاح أى مؤسسة يعتمد فى الأصل على الإدارة الجيدة، ولعل هذا السبب هو ما دفع المؤسسين لإسناد عملية إدارة بنك دى روما لعائلة باتشيللي؛ لِما عُرف عنها من قدرة على العمل الإدارى والمالي، خاصة أنهم توارثوا الأعمال المصرفية عن رئيس العائلة كايللو باتشيللي، والذى سبق أن عُين وزيرًا للخزانة فى أول حكومة يشكلها بنسو دى كافور فى سردينيا 1852.
أول بنك إيطالى يفتتح فروعًا له خارج أراضيه
الإشارات فى كتب التاريخ وأرشيف الصحافة حول فترة ظهور بنك دى روما الإيطالى فى مصر، لم تكن واضحة، لكن ما دوَّنه عصام خليل، أستاذ التاريخ بالجامعة العراقية، عام 2019، فى دراسة له حول دور بنك دى روما فى تنفيذ سياسة التغلغل السلمي، أكد أن فترة ظهوره فى المنطقة العربية كان بالتزامن مع الحملة الموسعة التى شنتها القوى السياسية والاجتماعية والنقابية فى إيطاليا؛ والتى كانت تنادى بالتوسع الاستعماري، خاصة فى منطقة شمال أفريقيا.
وأشار إلى أن أول فرع افتُتح للبنك فى المنطقة الأفريقية والعربية كان فى القاهرة 1903، تبعه فى العام التالى فرع آخر بمدينة الإسكندرية، وفرع فى مدينة أسمرة الإريترية 1905، وآخر فى العاصمة الإثيوبية فى العام التالي. وفى أبريل 1907 تم افتتاح فرع للبنك فى العاصمة الليبية طرابلس، ليصبح أول بنك إيطالى يفتتح فروعًا خارج أراضيه.
الأنجلو إجبسيان «ليميتد».. بنك اليانصيب والسلفيات
«أمير يحمل نفسية العبد ويفتقر إلى العقل والقلب والشجاعة، وكان يتآمر مع القناصل ضدي، رغم أننى امتهنت نفسى وركعت تحت أقدام السلطان العثمانى وملأت جيوبه بالذهب لكى أغير قانون الوراثة ويصبح توفيق الخديو من بعدى». هذه الكلمات التى دونتها كتب التاريخ على لسان الخديو إسماعيل، ربما تكون كاشفة عن العلاقة بين الأب وابنه الخديو توفيق الذى تولى الحكم من بعده، لكن حالة الجفاء هذه لم تكن مانعًا من أن يقلد الابن أباه، حتى فى تأسيس البنوك التى لم تكن البلاد فى حاجة لها، فمصر كانت تعتمد بشكل أصيل على الزراعة.
الخديو توفيق، الذى اتهمه التاريخ بأنه باع مصر بطبق كشرى لبريطانيا، قيل إن فى عهده أُسس بنك الأنجلو إجبسيان، وكان يطلق عليه «ليميتد»، كشفت وثيقة، حصلت «المال» على صورة منها، عن رأسماله الذى بلغ حينها 12 مليون جنيه إنجليزي، والمدفوع منها 400 ألف، فيما بلغ الاحتياطى 125 ألف جنيه إنجليزي.
وأشارت الوثيقة إلى أن البنك كان يُفتح به حسابات لقطع وتحميل الكمبيالات داخل القطر وفى الخارج، كما أنه كان يبيع ويشترى كل الأوراق المالية والسندات ذات «اليانصيب» بالنقد والمواعيد، كما كان يقدم السلفيات على الأوراق المالية والبضائع، ويقبل إيداع الأموال بفائدة 3% لسنة أو أكثر.
لكن الرواية الثانية، التى أوردتها مصادر تاريخية عن رهن الخديو إسماعيل 365 ألف فدان للحصول على ثلاث ملايين جنيه من البنك نفسه عام 1865، ربما تنسف ما قيل عن تأسيس بنك الأنجلو فى عصر الخديو توفيق.
«الرهن العقاري»
العائلات اليهودية فى هذه الأثناء كان أغلبها فاحش الثراء وتتحكم فى دائرة الاقتصاد المصري، إلا أن عائلات «روبين رولو، والتى جاءت إلى مصر قادمة من إسبانيا فى ظل الحماية البريطانية، وقطاوى ذات الأصول التركية المصرية، وسوارس»، كان لها نصيب الأسد من التجارة، خاصة عائلة رولو التى كانت تمتلك مؤسسة تجارية تعمل فى استيراد الصبغة، أو كما كانت تُعرف حينها بـ«النيلة» عام 1870.
تحالف استثمارى قاده روبين رولو يضم روفائيل سوارس ومويس قطاوى والبريطانى المالى إرنست كاسل، للمشاركة فى تنفيذ عدد من المشروعات؛ من بينها مشروع سكك حديد، وفى عام 1880 قرروا تأسيس بنك للرهن العقاري، أُطلق عليه البنك العقارى المصرى برأسمال بلغ 40 مليون فرنك فرنسي.
لم تشهد مصر فى هذه الأثناء تقدمًا كبيرًا فى الصناعة، ليبدأ البنك أعماله فى القطاع الزراعى من خلال تقديم ما عُرف بالسلف لأصحاب الأراضى الزراعية، تُردّ بفوائد عند بيع المحاصيل الزراعية.
«العقاري المصري» أول بنك للتمويل الزراعي في مصر
عملية الاستحواذ على حصص المُلاك فى البنك العقارى المصري، ربما أهملها التاريخ، حتى بداية عام 1999، حيث أُعلن عن دمج البنك العقارى المصرى مع البنك العقارى العربى الذى صدر قرار من جامعة الدول العربية بتأسيسه فى فلسطين عام 1946، لكنْ نُقل مقره للمملكة الأردنية الهاشمية، وبات يطلق عليه البنك العقارى المصرى العربي.
أقدم بنك فى العالم العربي .. رحلة «العقارى العربي» من فلسطين إلى القاهرة
بلغ عدد فروعه خمسين فرعًا، منها 28 فى مصر، و14 فى المملكة الأردنية الهاشمية، و8 فى فلسطين، إضافة إلى مراسلى البنك فى مختلف أنحاء العالم، ويُعد الآن البنك الأول فى العالم العربى من حيث العراقة وأقدمية التأسيس.
4 مصارف أجنبية تحت الحماية البريطانية
بينما تقع مصر تحت الحماية البريطانية عام 1882، وهى فترة حكم الخديو عباس حلمى الثاني، ازدادت عملية التوسع فى افتتاح فروع للبنوك الأجنبية أو تأسيس بنك برأسمال أجنبى، فشهدت الفترة افتتاح فروع لصالح بنوك «يابانى – الفرنسى المصرى – الخصم الأصلى الباريسي، وتأسيس بنك الإسكندرية التجاري».
«الأهلي المصري»
18 عامًا مرت على تأسيس البنك العقارى المصري، ويبدو أن التحالف الذى قاده روبين رولو 1880، اتفق على تأسيس بنك آخر يحمل اسم الأهلي، لكن هذه المرة دون روبين، ودخول لاعب جديد هو قسطنطين سالفاجوس الإسكندري، برأسمال مليون جنيه إسترليني، وصدر مرسوم بتولى البنك أعمال البنك المركزية وطباعة الأوراق المالية، حتى شمله قرار التأميم 1960.
«أُنشئ بأمر عالٍ فى 26 يوليو سنة 1898، رأسماله مليون جنيه ومحافظة السير ألون بالو». بهذه الجملة بدأ البنك الأهلى إعلانه المنشور عام 1898 فى واحدة من الصحف المصرية، جاء نصه: «البنك الأهلى بمصر والإسكندرية يخبر التجار خصوصًا، والجمهور عمومًا، أنه مستعد لقبول طلبهم بفتح حساب جارٍ، وقبول الودائع على شروط معينة، ويسلف ويفتح حسابات جارية على سندات وبضائع وأشياء ذات قيمة، ويهتم بمشترى الأشياء وبيعها فى الخارج بالقطع وبسائر أعمال البنك، ويخاطب فى ذلك بنك مصر والإسكندرية».
قطاوى وشيكوريل عائلتان هددتا حلم بنك مصر
الدعوة لإنشاء بنك برأسمال مصرى خالص بدأت منذ عهد محمد على باشا، وتجددت فى عهد الخديو إسماعيل، واستجاب الأعيان لها بعد أن خاض محمد طلعت حرب صراعًا مع التيارات الرافضة للفكرة، فى ظل اتهامات للبنك الأهلى بتمثيل سلطة الاحتلال الاقتصادية، لكن طبول الحرب العالمية الأولى دقت، لينتظر طلعت باشا والمتحمسون للفكرة 8 سنوات.
قِف بِالمَمالِكِ وانظُر دَولةَ المالِ .. واذكُر رِجالًا أَدالوها بإجمالِ
وانقُل ركابَ القوافى فى جوانبها .. لا فى جوانبِ رَسمِ المَنزل البالى
بهذه الأبيات، استقبل الشاعر المصرى أحمد شوقى فى ابتهاج نبأ تأسيس بنك مصر 1920، لكن وجود يوسف قطاوى شقيق مويس ويعقوب ذوى الأصول التركية، ويوسف شيكوريل على قائمة المساهمين، كاد يهدد استمرار البنك ويفسد هذه الفرحة، خاصة أنهما ينتميان لعائلات يهودية غير مصرية، وشاركا من قبل فى تأسيس عدد من البنوك.
بنك موصيري
يبدو أن طلعت حرب أدرك خطورة وجود يعقوب وشيكوريل على رأس المساهمين فى بنك مصر، وهو ما كان الاحتلال يحاول استغلاله من وقت لآخر لتحريض الناس على طلعت حرب، والقضاء على مشروع البنك، ليتخارجا ويشاركا عائلة موصيرى يهودية الديانة إيطالية الجنسية فى تأسيس بنك جديد عام 1935 أُطلق عليه بنك موصيري، تغيَّر اسمه 1961 إلى بنك النيل؛ شركة مساهمة متمتعة بجنسية الجمهورية العربية المتحدة.
38 بنكًا فى مصر الآن
بلغ عدد المؤسسات التى تقدم الخدمات المصرفية فى مصر نحو 38 بنكًا شاملة البنوك العامة، والخاصة، والأجنبية، حيث استحوذت البنوك الأجنبية على نصف الإجمالى من عدد الجهاز المصرفى المصري، وشملت ما يقرب من 21 بنكًا.