من «الشفرة» إلى «124».. التلغراف المصـرى «أجيال» تسجل مراسلات الحب والكرب

بنبضاته الكهربائية واللاسلكية، يعبر التلغراف عامه الـ 180، عبر أجيال عديدة، ولا يزال عصيًا على الاندثار ومتحديًا عصـــر الرسائل النصية والهـــواتف الذكية.

من «الشفرة» إلى «124».. التلغراف المصـرى «أجيال» تسجل مراسلات الحب والكرب
حسين القباني

حسين القباني

11:38 ص, الأربعاء, 25 ديسمبر 19

«زوجتك فى حالة حرجة»، 15 حرفا برسالة استغاثة، جلبتها رُسل الخيل من ولاية أمريكية عام 1825، إلى الزوج الرسام صموئيل مورس (1791 – 1872)، فترك لوحته بالعاصمة واشنطن؛ عائدا متلهفا إلى نصفه الآخر.

لكن القدر لم يمنحه فرصة التواصل الأخير، ودفنت زوجته دون أن يرد ندائها أو تشعر بحرارة أنفاسه ولمسة وداعه.

التلغراف اختراع ولد بعد 10 سنوات من الاستغاثة الأخيرة لإمرأة أمريكية عام 1825

صدمة توقف نبضات قلب شريكة «مورس»، دفعته لاختراع جهاز فى الفترة ما بين (1835-1844) يرسل نبضات كهربائية تُنقذ العالم من مآسى الفراق من خلال شفرة تُحول النقاط والشروط إلى حروف وأرقام فى رسائل قصيرة، وفق حديث سعيد كامل، رئيس جمعية «هواة اللاسلكي» المصرية لـ«المال»، ومعلومات تاريخية.

جهاز يتحدى الزمن

ورغم مرور نحو 180 عاما على اختراع «التلغراف»، لا تزال فتيات تجلسن باهتمام لتعلم استخدام شفرة «مورس» بجمعية «هواة اللاسلكي» شرقى القاهرة.

ويظهرن مفارقة واضحة إذ يتعلمن اللغة القديمة للتواصل، فى حين تقبض أيديهن على هواتف ذكية يتبادلن بها الرسائل فى ثوان معدودة.

المشهد لا يختلف كثيرا داخل سنترال مطور حديثا بالقاهرة، فالمواطنون لا تفارق أيديهم هواتف تحمل برامج اتصالات سريعة.

ورغم ذلك يقفون أمام موظف ستينى ليلقنوه نصوص الرسائل القصيرة التى يرغبون فى إرسالها عبر خدمة التليغراف التى عادة ما ترسل من خلال رقم الهاتف «124»، الجيل الجديد لإرسال البرقية حاليا دون استخدام شفرة مورس، وفق مشاهدات ميدانية.

يقف رجل خمسيني، يُعدّل نظارته، ويمسك بقلم ليدون شكواه لجهة حكومية فى النموذج التلغرافى.

ويستعجل الموظف، لإنهائها، والذى يطالبه بالصبر قليلا، ليستكمل إجراءات حساب تلغراف سابق.

بعد انتهاء المهمة يدق الخمسيني، على لوحة أرقام هاتفه الحديث؛ ليخبر أسرته، أن التلغراف تم إرساله، قائلا: «اطمئنوا».

لم يتغير الأمر، فى مشاهدة ثانية بعد أيام بمقر الاتصالات الحكومى ذاته.

إذ تجلس موظفة فى أواخر عقدها الخمسين، بانتظار إعداد تلغرافات عبر الهاتف 124.

وتتذكر أنها تعلمت شفرة «مورس» فى معهدها اللاسلكى فى وقت مبكر من شبابها.

وتبتسم و»المال» تسألها عن مصادفتها، لتلغرافات حب كمثل انتشارها بالأفلام.

قبل أن تجيب بتحفظ كونها غير مخول لها التصريح الصحفي: «ربما %1 من المراسلات لكن فى الأفلام كتير».

شفرة تتطور وخطوط تتمدد

على مقعد مشابه كان يجلس قبل أكثر من 100 عام، «أشهر تلغرافجى عرفته مصر، وهو عبد الله النديم، خطيب الثورة العرابية (1842 /1896) فى مكتب تلغراف بنها»، وفق حديث لـ»المال»، أدلى به محمد عزب المتحدث باسم الشركة المصرية للاتصالات المسؤولة عن تقديم خدمة التلغراف، من خلال ألفى مكتب على مستوى محافظات مصر.

أتقن النديم مهارة تدوين التلغرافات، وفق شفرة مورس، المتعارف عليها آنذاك، لأمرين أولهما كسب العيش والثانى التعرف على أفكار العالم عبر الاتصالات المتطورة، وفق حديث المؤرخ، عبدالمنعم الجميعى لـ«المال».

وعمل النديم فى التلغراف بالتزامن مع إضافة والى مصر سعيد باشا (1822 – 1863) آنذاك خطوطا تلغرافية حديثة، وفق الجميعي، بعد سنوات من إنشاء أول خط تلغراف يربط بين القاهرة والإسكندرية عام 1854.

وعمّم الخديوى إسماعيل (1830 – 1895) الخطوط التلغرافية فى أنحاء البلاد.

إذ بلغت 151 مكتبا عام 1878 بمصر والسودان (إبان وحدتهما)، وامتدت بحريا إلى أوروبا، وعدن والهند وغزة والآستانة، وفق كتاب «مصر فى عهد الخديوى إسماعيل»، لمؤلفته إيناس البهيجي.

وفى عام 1918 أنشأت الحكومة مصلحة السكك الحديد والتلغرافات، وتغير اسمها إلى الهيئة القومية للاتصالات السلكية واللاسلكية عام 1957.

ولا توجد إحصائيات رسمية حالية عن أعداد التلغرافات أو إيراداتها.

غير أنه وفق مشاهدات لا تخلو سنترالات بالجيزة ووسط القاهرة، يوميا من راغبى إرسال البرقيات التليغرافية.

ووفق دار الكتب المصرية، التى تعج بعشرات العناوين والدوريات التى تخلد التلغراف للأجيال، بلغت إيرادات «مصلحة التلغراف» عام 1887 (34 ألفا و891 جنيها).

وسط قرار آنذاك بألا تنقص أجرة التلغراف الواحد عن 5 صاغ (عملة مصرية قديمة).

وأجرى محرر المال اتصالا بالرقم 124، لمعرفة تفاصيل الأسعارالحالية.

وبحسب الموظفة التى أجابت فالكلمة فى التلغراف المحلى سعرها 20 قرشا، وفى التلغراف الدولى لا تقل عن 8 جنيهات.

بينما برقيات التعازى والتهانى فسعرها موحد للنص كله، ولا تزيد عن260 قرشا للبرقية الواحدة.

نبضات وتعريب

وولد التلغراف الذى يعرف فى المعجم الوسيط بالبرق، من رحم جهاز «مورس» فى شكل نبضات كهربائية (أجراس) لجهاز مماثل مُستقبل، تسمع فى شكل نقاط (جرس صغير) وشروط (جرس كبير) وتترجم، فمثلا (.-) يقابلها فى اللغة اللاتينية، A ، و(.—-) يمثل رقم1.

وتم تعريب الشفرة فى ثمانينيات القرن الماضي، وصار(.-) يقابلها أ ، (.-.-) ع، و(-…) ب، و(-) ت، و(..) ي، وفق ما نقله كتاب «قصة اللاسلكي»، لعلى عبد الجليل (مطبوع عام 1948).

الطريق من «مورس» إلى «124»

يسرد المتحدث الحكومى محمد عزب، قصص الأجيال المتعاقبة بين شفرة «مورس» ورقم الهاتف «124».

ووفق عزب”كانت البرقيات تنتقل قديما عن طريق «خطوط الربط بين مكاتب التلغراف، والمبرقات المزدوجة، والجنتكس، والتلكس، والفاكسيميلى (أجيال أجهزة تبادلية ترسل وتستلم البرقيات)».

ويتابع عزب: «تم تطوير التلغراف عام 1998 باستخدام نظام (التام)، وهو ميكنة التلغراف الحديث وتم إنشاء الفونغرام 124″.

وقال: “ترسل البرقيات عن طريقى الاتصال الهاتفى (الأرضي) بخدمة 124 أو الذهاب لمكاتب التلغراف».

من الشفرة إلى الفونجرام «6 أجيال» تعمق تواصل المصريين

ويؤكد المتحدث أنه «تم تطوير التلغراف عام 2016 لتسهيل عملية نقل البرقيات من خلال بروتوكولات مختلفة عبر الشبكة الداخلية للمصرية للاتصالات وبرامج أحدث لسرعة نقل البرقية من مكتب إلى مكتب آخر، بجانب تحديث التلغراف الدولي».

على وقع رنين أجراس

على وقع رنين أجراس أجهزة التليغراف، عاشت أجيال من شفرة «مورس» إلى التطور الحالي.

وعاصر بعضها طلعت عمرو، نائب الجمعية العلمية لمهندسى الاتصالات (غير حكومي) أثناء عمله كموظف تلغراف، بحسب حديثه لـ«المال».

ويسترجع عمرو ذكريات جيل «مورس»: «كنا نعتبر موظفى تلغراف مورس، عباقرة”.

ويضيف: “كانوا لديهم مقدرة على تفرقة الجرس الصغير والكبير وتحويل شفرته المرسلة لكلمات، وحققوا تواصلا كبيرا بين الناس».

يقينًا فمن عايش التلغراف ليس كمن زاره أثرا فى متحف.

دهشة

إذ يقول الطالب بكلية الهندسة، محمود عبدالمنعم، أحد الذين زاروا متحف المصرية للاتصالات (رسمي)، «أصابتنى الدهشة حقاً حين رأيت التلغراف».

ويستدرك: «لكن لم تكن دهشتى بسبب وجود تلك التقنية حتى الآن فحسب، بل تضاعف ذهولى حين علمت بوجود كل تلك التقنيات فى بلادى منذ تاريخ قديم”.

وأضاف: “كانت مصر مواكبة للعصر التكنولوجى فى مجال الاتصالات قديما و حديثا».

تخليد متحفى وفني

المتاحف لم تكن وحدها من خلدت ذكرى التلغراف بل شاركها فى ذلك الأفلام السينمائية أيضا من ثلاثينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي.

وأبرزها: «التلغراف»، و»بحبك أنت»، و»على أد لحافك»، و«شاطئ الغرام»، و«الحقيقة العارية»، و«حكاية جواز»، و«أغلى من حياتي» و«أنا وزوجتى والسكرتيرة».

بخلاف أغان مميزة خصصت للتلغراف أبرزها «تلغراف حب» للمطربة زينب توفيق عام 1985، و«تليغراف» للمطرب محمد محسن عام 2017.

وكان التلغراف جزءا أساسيًا من صناعة الحب والصراعات الدرامية فى تلك الأعمال الفنية.

حيث لم يفلح تلغراف سلوى (اللبنانية منى) فى خطف قلب الثرى عادل (حسين صدقي) بفيلم «شاطئ الغرام».

فيما انتصرت برقية أخرى ارسلها عادل من مكتب التلغرافجي، والد ليلى (ليلى مراد) تضمن نصها مفاجأة له بطلب يد ابنته.

وكذلك كان إرسال تلغراف، هو الحل الوحيد أمام منى (شادية) للوصول إلى حبيبها المسافر أحمد (صلاح ذو الفقار) فى فيلم «أغلى من حياتي».

وما أن تسلم العامل البرقية العاطفية، قال: «عشنا وشوفنا تلغرافات آخر زمن».

والتلغراف كان أيضا مرسال الحب فى أغنية «تلغراف حب».

و تقول الأغنية: «لأول مرة بقولها (بحبك) وأتمنى العمر أعيدهالك وإن غبت فى يوم هبعتهالك فى تلغراف».

أفلام وأغانٍ خلدته فى الأذهان على مر العصور

وكان وسيط العزاء التقليدى المعروف، فى أغنية تلغراف» بالقول: «اللى فات نص تلغراف وصلنى من ساعات.. وكان عزا نص اللى عايش فيا من النص اللى مات».

وتواجد التلغراف فى الفن لا سيما قديما «كان انعكاسا لانتشاره كوسيلة تواصل»، وفق حديث خاص للناقدة الفنية البارزة، ماجدة موريس.

وتتذكر موريس وهى طالبة بالجامعة كيف كانت تتنظر وقتا عقب إرسال والدتها تلغرافا لها، على عكس التواصل اللحظى للرسائل حاليا.

ويتفق معها المؤرخ الفني، محمود قاسم، قائلا: «كان التلغراف كالفيسبوك فى زمنه، فطبيعى يشتبك معه الفن لاسيما عاطفيا».

مرسال الحرب

ولم تكن العاطفة وحدها المسيطرة على التلغرافات.

إذ يسترجع قاسم فى حديث لـ»المال» تجربته إبان التحاقه بسلاح الإشارة بالجيش عام 1973.

ويقول إنه أطلع على شفرة مورس، وعاصر أبطال ماهرين يستخدمونها فى مراسلات الحرب.

ويؤكد اللواء المتقاعد طلعت مسلم، أحد قادة حرب أكتوبر 1973، فى حديث خاص، أن دور التلغراف كان بالغ الأهمية فى الحروب مع ظهور شفرة «مورس».

وأضاف: «نجح فى توصيل معلومات كثيرة، ولكن كلّ شيء يتغير ويتطور».

وثيقة عابرة للحدود

وبعيدا عن مراسلات الحب والحرب، يؤكد المتحدث الحكومي، أن التلغراف، وثيقة رسمية معترف بها لدى الجهات الحكومية والقضائية.

و تتنوع بين البرقية العادية، الحكومية، والمصلحية، والإداريات.

وتشمل برقيات التهانى والعزاء، والشكاوي، والمرضي، والاستدعاء، والتعاقدات، والمناقصات، والبرقيات الدولية، وفق المتحدث.

خبير: يعد بداية السلم الموسيقى للاتصالات وسيبقى محل اهتمام عالمي

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، وفق رئيس جمعية هواة اللاسلكى المصرية، فلا يزال التلغراف وأجياله المتعددة محل اهتمام عالمي.

إذ أقيمت فى بلغاريا (سبتمبر/أيلول 2019) مسابقة عالمية لهواة التلغراف.

وشارك فيها أكثر من 400 شخص من أعمار مختلفة.

ويتابع: «هذا النمط العتيق لا يزال مستمرا مع الهواة بمصر والعالم”.

وقال: “هناك أماكن مهتمة بتصنيع جهاز شفرة مورس الذى يعتبر السلم الموسيقى للاتصالات».

مصير محفوف بالتفاؤل

ورغم هذا التنوع والثراء التاريخي، يقف مصير التلغراف، بين قناعة بأهمية جدواه مستقبلا، وانكار لاحتمالات استمراره.

يقطع محمد عزب هذا التشكيك قائلًا: «لا يمكن الاستغناء عن خدمة التلغراف سواء محليا أو دوليا ولا يوجد بدائل لهذه الخدمة».

متحدث الاتصالات: لا استغناء عن الخدمة محليا

ويضيف: «إن وجد بعض الوسائل الأخرى التى تعبر عن نفس مضمون التلغراف، لكنها لا تعتبر بديلا عن البرقية وخصوصا الرسمية لدى الجهات الحكومية والدولية».

على طرف النقيض، يرى المؤرخ الجميعي، أن التلغراف «قام بدوره، وسيصير من بقايا الزمن الجميل، وفى ذمة التاريخ مثل مدفع رمضان».

وينكر الخبير طلعت عمرو، «وجوده فى المستقبل».

وتتفق معه، الناقدة موريس: «لو مشهد فنى سيتضمن ظهور التلغراف، سيصير كوميديا، فى ظل جيل التكنولوجيا».

بينما يتوقع المؤرخ قاسم ظهوره فى الأعمال التاريخية فقط.

ومن 2006 وإلى 2018، أنهت الولايات المتحدة، والهند وبلجيكا وفرنسا خدمة التلغراف لديهم بعد عقود طويلة لصالح التقنيات الحديثة، وتراجع نسب الإرسال.

بقاء التلغراف أنسب الحلول

غير أن الطالب، محمود عبد المنعم، يرى أن بقاء التلغراف أنسب الحلول.

وقال: «فكرت فى احتمالية حدوث أى عطل أو تخريب فى الوسائل الحالية فماذا سنفعل حينها؟”.

وأضاف: “فوجود حل بديل مثل التلغراف وعدم تخلينا عنه هو أنسب الحلول».

ويتابع: «السرعة التى يتقدم بها التطور التكنولوجى تحتم اختفاء مثل تلك التقنيات العتيقة”.

واستدرك: «لكن من داخلى أتمنى لو احتفظنا بأصول التقدم».

وأكد أن الفضول يقوده إلى خوض تجربة إرسال أول تلغراف.

عصيّ على الاندثار

وبنبضاته الكهربائية واللاسلكية، يعبر التلغراف عامه الـ 180، عبر أجيال عديدة.

وخلد ذكراه التاريخية فى وجدان المصريين، كأقدم وسائل الاتصال فى عصــــر مراسلات الأشــواق والحـــروب.

ولا يزال عصيًا على الاندثار ومتحديًا عصـر الرسائل النصية والهـــواتف الذكية.

كتب/ حسين القبانى