من أمن العقاب.. أساء الأدب!

من أمن العقاب.. أساء الأدب!
محمد بكري

محمد بكري

6:35 ص, الثلاثاء, 19 أبريل 22

مقولة واقعية لأقصى درجة، طرفاها قادر ومقدور عليه فى نظام مُقدر، يبدأ من العلاقة مع الله، مرورًا بالعلاقات بين العباد، وحتى العلاقة بين الدول! المحك الحقيقى هو القدرة على تنفيذ العقاب، وليس التهديد به أو الإيعاز بوقوعه. فى منظومة العقاب والأدب، لا يوجد سوى الشطرنج الإلهى ما تجد تدابير جزائه واقعًا بحكمة وعدل.

مقولة (يُمهل ولا يهمل) لا يحدّها مكان أو زمن؛ لأن حسابات الزمن والمكان والبشر مبسوطة بين يديه فى رقعة واحدة. خلافًا لحسابات أى شيء عداه سبحانه، ولكن فى جميع الحالات المنظومة سارية لحظيًّا إلى أن تقوم الساعة.

مشكلة البعض التغافل عن المنظومة أو الشك فى القادر أو النظام نفسه، أو الاختلاف حول مفهوم الأدب نفسه. ومع ذلك يبقى التأديب من وقت لآخر هو المنقذ الوحيد لعدم فساد نظام الكون.

والتأديب أشكال وألوان وصنوف! فهناك تأديب بالمنع، وآخر بالمنح! هناك بالقوة، وهناك بالتوريط! هناك بالعلن، وهناك فى الخفاء! وغافلٌ مَن ظن التأديب عقوبة؛ لأنه يعلم لتجنب التكرار! أما العقوبة فقد تصل للحجب والمحو والخسف.

كثير منا يعيش ويتعامل ويتنفس متغافلًا عن فلسفة الأدب وحكمة العقاب! فتكون حياته تنويعات على إساءة الأدب مع الله والعباد والجيران، فللأسف أدمنّا إساءة أدب الصداقة والشراكة والعمل والمنافسة، بل والوطنى والتدين.

حدود وجزاءات أى قانون دنيوى هى العقوبة لانتهاك أى نظام، ولكن الفساد والاستثناءات والخواطر ومراكز القوى والتحالفات والمصالح أصبحت تأمن من وقوع العقاب لدرجة التصالح معه أحيانًا! فحتمًا تكون إساءة الأدب الشخصى والفئوى والمجتمعى والدولى هى النتيجة.

الأوامر والعقوبات الدينية الأرضية ضمانة لتأدب حياة البشر على الأرض، ووعد العقاب مؤجل عند الحساب، ولكن مع ملاهى وزخارف الدنيا والمصالح والميديا وفتاوى العصر وجرح الدين ورموزه، من الطبيعى إساءة الأدب والتطاول والتغافل والغفلة عن فكرة الله نفسها وليس أنواع عقابه المؤجلة!

مَن بيده العقاب الحقيقى هو الله وليس أى أحد آخر دونه- لا يعلم جنود ربك إلا هو- حتى لو وصل لفناء ما تحت الشمس! فسيأتى الله بقومٍ يحبهم ويحبونه. الأزمة فقط فيمن يظن بنفسه القدرة أو استمرارها أو إدارتها، ويغفل عن مقولة (ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال).

فلا دوام إلا لله و بالله وفِى الله. أما منظومة العقاب والأدب بين العباد فهى مؤقتة ومحدودة جدًّا ولا رادّ لها إلا مشيئته وحده.

وقد تفوق إساءة الأدب النظام نفسه وتعلو عن العقاب المفروض، حتى لتكون بذاتها نظامًا جديدًا يسنّ عقوباته! ولكن الله غالب على أمره وقادر على أن يسلط على أذن النمروذ نملة ترتع فى أذنه فلا ينام إلا إذا ضُرب بالنعال على راْسه لتهدأ، فتكون تأديب القادر الحقيقى على مفجر النظام الجديد!

تمر القرون ولا ينتهى التاريخ! ونماذج إساءة الأدب بداية من النمروذ، فرعون وأنا ربكم الأعلى، حتى شخصية هامان مهندس فرعون فى صرح الإفك للوصول للحق! شخصية تتألق على مر العصور، بصروحه الفكرية والمادية والروحية والاقتصادية، لتتواتر وتتنوع معه فراعين العالم شرقًا وغربًا، جنوبًا وشمالًا، ولكل منهم هامان إداريًّا وفكريًّا وسياسيًّا وحربيًّا ودينيًّا، يُبدع فى بناء صروح ترتفع فى كل مرة على نار مختلفة! ولكنها لا تكتمل وإن طال الزمن أو ضعفت القضية أو استمر الفرعون! التاريخ يثبت أن هامان دومًا يموت، يُعاقَب، يُحبط، وفرعونه يذوى ويكون عبرة!

ولكنْ من هو فرعون القرن الـ21 ومَن هامانه، وكيف تبدو صروحه، وكيف أصبحت أشكال إساءة الأدب فى الدراما والتعاملات والسياسة وتحكمات التدين، شريعة وقانون الغاب المجتمعى والدولي؟ حتى فرعون نفسه أصبح رمزًا لعهد أو نظام عالمي، سخّر جيوشًا من الهامانات، التى تطورت فى بناء صروحها المعمارية والورقية والاتفاقية والمالية! فأصبحت الصفقات صروحًا، النظم صروحًا، خطط التنمية صروحًا، المناظرات صروحًا، المصالح صروحًا، تقسيمات الجغرافيا صروحًا، تقدم التقنية على حساب البشر صروحًا، وغيرها من الصروح التى تُطلب، وتُبنى، وترتفع، لكنها لا تكتمل لدحض الحق! الحق فى الوجود، الحق فى الاستمرار، الحق فى الإيمان، الحق فى الإبداع.

لفهمنا مقولة «من آمن العقاب.. أساء الأدب» يلزم أن نعى أن الدنيا طبقات ومراحل ودرجات، لكلٍّ نظامه، ولكل آدابه، ولكل عقابه.

لتبقى المعضلة الحقيقية الإيمان بأنه لا يقدر على القادر… إلا الله، ولو كانت نملة!

فانظر … تعِ!؟

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]