تعيش مصر حاليا أحرج مراحلها منذ عهود طويلة، بتصارع بزوغ الدولة القوية مع الوعى الجمعى المهترئ، صراع قيادة متنورة تحاول النجاة، مقابل أطياف تنخر فى (التعليم/ الدين/ الفن والثقافة والإعلام) كمكونات وعى الشعب! لهذه المكونات ضوابط موضوعية ترقى لوصفها بالدين، المُحقق لرسالتها بتشكيل الوعى الجمعى، ولكن كيف يتم لمصر النجاة، بوجود منهجية لازدراء أديان الوعى المصري؟
القانون من معانى الدِين اصطلاحا (وليس شرعا)، فمن دان خضع، ودان بكذا فهى ديانة وهو دين، ويكون متديّنا، من يدين باعتقاد وسلوك، فتكون طاعته والتزامه قانونا لما يعتنقه من فكر ومبادئ. فالدين نظام اجتماعى ثقافى من المفاهيم والنصوص والسلوكيات والممارسات والقيم والأخلاق، التى يدين بهم الفرد أو المجتمع لتنظيم حياته. فما هو دين التعليم؟ ودين الفن والإعلام والثقافة؟ بل وما هو دين الدين؟
بالمفهوم الاصطلاحي؛ يكون دين التعليم والعلم هو منهجية زيادة وعى الفرد بقدرته على التفكير والتحليل والتوقع، وإمكانيات تطوره ومرونته وتنمية معرفته ومهاراته، وكدين صالح، يحقق التعليم التنمية المستدامة، كأداة مؤثرة لإنهاء الفقر وتحسين الصحة ودعم النمو الاقتصادى، فيؤسس مجتمعات آمنة، مستقرة تتصدى لقضايا الوجود بحلول إبداعية. فهل التعليم المصرى الآن يعتبر مُتدينا؟ فمع قسوة ما تعانيه تجربة تصحيحه الحالية، بنخر مكوناته من محتوى وطالب ومُدرس ومنشأة تعليمية.. نعانى من معارف وحلول مصابة بالفصام، سلوكيات مازوخية مُحبطة، خريجين من ورق، فكر مقولب، تقنيات استرزاق، تدريس مرتزق، واقتصاد تعليمى يفلس! والنتيجة منظومة وأجيال هشة تَضل وتُضل، فتزدرى بمخرجاتها دين العلم والتعليم!
كذلك فدين الفن والثقافة والإعلام؛ هو منهجية ترسيم الوعى الجمالى للفرد، بتطوير وتحسين الذوق العام ومعايير الجمال للحواس الخمس، بتنوير أهمية العلم والتعليم، بتحرير الفكر والإبداع، بترجمة القيم والأخلاق والآداب لصوت وصورة وكلمة ولحن، بنحت الوطن والتنمية والعمل كإيجابيات تقزّم السواد، بصناعة رموز قدوة لا نكبة، بالتعامل كرسالة لا استرزاق، باستهداف الصحة النفسية وفكر الفرد والمجتمع. فهل الفن والثقافة والإعلام المصرى الآن مُتدينا؟ فمع نكسة أغانى المهرجانات ودراما البطل الفوضوى والكوميديا السوداء ومسرح السطحية، وأدب الإحباط والرعب، وتراجع صحافة الورق واغتيالات السوشيال ميديا للبراءة والتربح بالعرى وبروزة الفشل، وثقافة مفيش فايدة وإعلام السبوبة وتغييب التاريخ.. نقاسى لحظيا مجتمعا مصروعا؛ بالفكر المخلوط، وتسليع الأغانى والموسيقى والدراما كمنشطات للتحرش الجنسى، وتسميم النشء بالعنف والغرائز ولغة السقوط، وثقافة الفوضى وسخط الإجرام لبطولة، وتبرير التفسد وفُحش القول والفعل بأكل عيش قلة مقابل تخثر وعى شعب، واسترزاق وتنطع الشاشات على حساب الموضوعية وتفتيت الحقائق. النتيجة اهتراء مجتمعى مُتلاعب به ووعى مزيف يعوق الدولة القوية!
بل؛ إن دين الدين (كقانون لا يمس النصوص السماوية)؛ هو منهجية تنزيه الخطاب الدينى عن التسييس والسيطرة والمصالح والتقوت، باعتماد جوهر الدين، بتحقيق الوسطية والموضوعية، بتكريم العقل مقابل النقل، بفصد الخزعبلات والرخص التفصيل، بتحجيم تقديس التراث والرموز وشرعنة اجتهادات السلف كقوة توازى النص السماوى والسنة الصحيحة، بتنقية التراث من المدسوس والغريب، باحترام الآخر وعدم تكفيره، بتأمين الممارسات والشعائر السوية، باحترام الفكر فى المناقشة المُسندة، بحسم الشطط وجرح الثوابت. فهل الجارى يُعبر عن تدين الدين بهذه المنهجية؟ فى ظل تربص المادة 98 عقوبات بفكر الاجتهاد الموضوعى للدارسين، وإرهاب المنتفعين بالتلويح بأحكام حبس المجتهدين كعظة للاحقين، وتمريرهم فتاوى واجتهادات مئوية تغتال المنطق وروح الفهم والعصر، واحتكارهم التفسير والشرعنة، واستحضارهم للدولة الدينية.. فالنتيجة صناعة فتنة مجتمعية ممنهجة، لصالح صُناع عصا الإرشاد وتفعيل سيطرتهم، بقتل الاحتكاك الفكرى ومعاصرة تصحيح الواقع، بكشف الحقيقة المُضببة بالأوهام والأيديولوجيات التى تحجبها.
ما نعانيه فى العلم والتعليم ليس بتجديد، ونقاسيه مع الفن والثقافة والإعلام ليس بحرية رأى وإبداع، ونكابده من منتفعى الدين ليس بنجاة، بل حقيقته منهجية مفعلة لازدراء أديان الوعى الجمعى، بلا رقيب أو عقوبة! فمفهوم الازدراء بعدم إظهار التقدير أو أى احترام لمنهجيات أديان مكونات الوعى، يتحقق يوميا بتصرفات وأقوال وأفعال ومنتجات متآمرين ومنتفعين الوعى الجمعى المصري! ويردنا ثانية لصراع بزوغ الدولة القوية مع الوعى الجمعى المهترئ. للمنصف فمصر حاليا «كدولة لا مجتمع»، تأخذ بأسباب تحقيق الدولة القوية (رؤية استراتيجية/ بنية تحتية/ قوة دفاعية/ قانونيات مُلزمة/ تموقع دولى/ تنمية اقتصادية واجتماعية/ إعادة بناء الإنسان)، ولكن باستفحال ازدراء أديان الوعى الجمعى، فالعقلية النقدية للمصريين تتنفس تحت الماء!
عندما صرح الرئيس السيسى بكلمته بالندوة التثقيفية الـ29 للقوات المسلحة 2018، بأن «الوعى المنقوص والمزيف هو العدو الحقيقى، وإذا كنا مهتمين بحفظ البلد وحمايته يجب أن ندرك الصورة الكلية للواقع الذى نعيشه»، مثلت الكلمة وعى القيادة بأهمية «تعزيز العقلية النقدية للمصريين، وتحقيقها بالبناء العملى بالمدارس والجامعات والإعلام والأسرة والمسجد والكنيسة والمعبد، المنوط بهم جميعًا تخريج وتربية أجيال قادرة على التفكير السليم والموضوعى بأى قضايا وملفات تخص حاضرهم ومستقبلهم».
ولكن كيف يتم ذلك لمصر بوجود #منهجيةازدراءأديانالوعيالجمعي_المصري؟
لا فكاك من إيقاظ الرقابة الفنية والجهات الرقابية للفلترة لا المصادرة/ دعم النقابات الفنية لمحاصرة أغانى المهرجانات ودراما الفوضى، بمنابر موازية توعى بحقيقة آثارهما المدمرة، كما كشفتها المحكمة الإدارية العليا بالطعن 43350 لسنة 64 قضائية عليا/ الفصل الموضوعى بين حرية الرأى والانفلات وبين الاجتهاد الموضوعى المُسند لدارس/ إصدار مُستنيرى الدولة مع مفكريها والمتخصصين كتابا أبيض، لضوابط جديدة لحرية الرأى والإبداع، لإطلاق مشروع ثقافى آمن يبنى العقلية النقدية بالتدريج/ عرض قضايا ازدراء الأديان على لجنة خبراء ثلاثية بعضوية الأزهر قبل الحكم بالإدانة/ إلغاء م 98 عقوبات/ إقرار الدولة لمشروع تنقية كتب التراث/ غربلة الإعلام وفشلة الفن/ جدية إنقاذ التعليم/ تأسيس الهيئة العامة لبناء الإنسان المصرى/ تفعيل المشروع الثقافى المصرى بخبرات حقيقية لا رسمية فقط/ وقف تدريجى للإنتاج الربحى المزدرى لدراما وفضائيات الدولة، واستعادة دورها لإنتاج دراما تدين بمنهجيات الفن والثقافة والدين لصّد خبث التلاعب بالوعى/ وإطلاقها مسابقات تأليف تدين بالمنهجيات لإنتاجها أعمالا فنية، والقائمة طويلة..
لن يتم استكمال بناء مصر القوية، بدون قرار حرب على مزدرى أديان الوعى الجمعى المصرى.. وهو قادم فاستعجلوه!
- محامى وكاتب مصرى