هناك تعريفات عدة للأيديولوجية، وفقاً لنوع من التعريفات كلنا مؤدلجون، بمعنى أن ثمة قناعات وقيماً ومعايير وانتماءات توجه فرزنا للوقائع وتفسيرها، على سبيل المثال قد نرى فى جمال عبد الناصر مدمراً الحريات، وقد نرى فيه نصير الفقراء، أو نعترف بالجانبين لكننا نرى أن أحدهما أهم، هذا الاختلاف طبيعى ومقبول ويثرى المعرفة الجمعية، ما هو غير مقبول هو ازدواج المعايير، قد أكون يمينيا، أو أهلاويا، فأقلل من شأن الأخطاء التى يقع فيها أفراد عصبتي، أو أراها «حوادث فردية»، بينما أعمم بسهولة عندما يرتكب خصمى السياسى أخطاء، ولا أتهاون فى التنديد بأفعاله، الخ، فيكون مثلاً المتعصب من أبناء جلدتى «متحمساً قليل الخبرة» بينما يكون خصمى وعدوى «متطرفاً شريراً حاقداً غبياً» إلخ.
لا تهمنى هنا الأيديولوجية بهذا المعنى الواسع والشائع، بجوانبها الخيّرة والسلبية، ما يهمنى الأيديولوجيات التى يشملها تعريف ثان وضيق، لأنها قد تؤسس حركات وأنظمة شمولية، وهذه الأيديولوجيات روايات كبرى، ترى أن للتاريخ اتجاهاً حتمياً يصنعه البشر، وترى أن الحاضر أسير مملكة الشر (دار الكفر/حكم الرأسمالية العالمية/ أمريكا/ حكماء صهيون، لكل أيديولوجية شريرها) ولقوى شر تتحكم فى العالم وتسيّره ولا يُرجى منها أى خير، ووفقاً للأيديولوجية غاب وعى الغالبية وتم تغييبهم، لكن الخلاص آت حتماً لا ريب فيه، آت بفضل أقلية واعية متعالية منضبطة تمتلك الحقيقة، ومهمتها إبادة الشر وإقامة الجنة على الأرض.
لن أتعرض هنا لنوعية الأنظمة التى تأسست بناء على هذا النوع من الأيديولوجيات وعلى حصاد تجاربها المتنوعة، ما يهمنى هنا هو علاقة العقائدى المؤمن بها مع الواقع، فهو لا يراه، ويعيش فى واقع بديل من بنات أفكاره، علاقته بالواقع الحقيقى ضئيلة أو منعدمة، وعلاقته باللغة فريدة، فهناك مصطلحات يؤمن بها ويقدسها، لأنها العمود الفقرى للأيديولوجية، فيستخدمها لتفسير كل شيء، لا يحدد لها نطاقاً ولا مجالاً فهى شاملة وكافية لشرح وفهم وتصنيف كل شيء، ومصطلحات أخرى لا يراها مهمة ويتلاعب بمعناها، ويستعملها فيما لا يصح استعمالها ووفقاً لمصلحة الأيديولوجية وحامليها، وأخيرًا فإن علاقته بالأخلاق علاقة من نوع خاص، ما يخدم التمكين وإبادة الشر خير كله، بما فيه ذبح الأطفال وأعضاء الحزب، وما يعطل التمكين وإبادة الشر – نجاح نظام آخر فى تحقيق الرخاء مثلاً- فهو شر كله، ويعتقد العقائدى أن وعيه هو الوعى الحقيقى، وأنه بفضل الأيديولوجيا يرى ما لا يراه غيره، أما وعى غيره فباطل زائف.
وكثرت شهادات من عاشوا فى ظل أنظمة عقائدية، ويجمعون على أنهم عاشوا تجربة غير مسبوقة فى تاريخ البشرية وفى ظل نظام لم يعرفه تاريخ البشرية، النظام الشمولى مختلف عن النظام الاستبدادي، النظام الاستبدادى هو حكم القوة والبطش والقمع وعدم احترام القانون والحقوق.. إلخ، النظام الشمولى يضيف إلى ذلك مركزية الأيديولوجيا فى صورتها المبسطة وسيادتها، والأيديولوجية المبسطة ليست خطاباً بمعنى الكلمة بل لغة لا معنى لها ومانعة تماما للتعبير عن أى معنى منبثق من الواقع وله علاقة به.
الأيديولوجية من النوع الثانى ظاهرة حديثة، وتاريخ ظهورها محل اختلاف، يمكن القول إنها ظهرت عندما ساد السؤال أى مستقبل نريد وعندما عم تشخيص يرى الحاضر بغيضا بل أسير مملكة الشر، وعندما عم البحث عن جواب يعطى للبشر أو لطليعة بشرية الدور المركزى فى تحريك التاريخ.
لن نخوض هنا فى النقاش العلمى حول الأنظمة العقائدية، وطبيعتها كما وصفناها، والجدل بين الذين يرون فى الكابوس الذى وصفناه سمة دائمة أو مرحلية، ما يهمنى فى إطار سلسلة هذه المقالات هو السؤال: هل يمكن مفاوضة العقائدى المؤدلج؟
يتبع
- أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية