تناول الأستاذ العقاد فى مقدمته لديوانه «قصائد ومقطوعات»، تناول مفهوم الشعر العصرى، فلم يوافق على وصف البعض للشعر العصرى بأنه الخالى من المديح ومن الهجاء، وبأنه يكون بذلك شعرًا جديدًا وليس بشعر قديم.
فذلك فيما يرى ــ من أمثلة التقليد فى انكار التقليد.
فالشعر لا يكون عصريًا مبتكرًّا لمجرد أنه خلا من المدح، ولا يكون قديمًا لأنه يشتمل عليه.
المحك للتفرقة هو تعبير الشاعر، حتى فى المدح والهجاء، عن عقيدة صادقة لديه، أو عاطفة صحيحة..
وضرب لذلك مثلاً من التصوير بالريشة، وهو كالشعر أحد الفنون الجميلة التى يقع فيها الابتكار كما يقع التقليد.. فالرسام لا يستبعد من المصورين « العصريين » لمجرد أنه رسم شخصًا من أجل ثمن مقدور، فالعبرة ليست بالمحاكاة الخارجية ونقل الشبه والملامح، وإنما قدرة الفنان العصرى هو فى الإبانة عن الأطوار النفسية، فإن أجاد التعبير عنها فهو رسام عصرى حتى وإنْ إقتضى أو قبل أجرًا على عمله. ولا يعد الرسام عصريًا لمجرد أنه لا يتقاضى أجرًا ممن رسمه متبرعًا.
الذى يعاب هو بيع الثناء الصادر بلا عاطفة ولا عقيدة.
ومن أمثلة التقليد فى إنكار التقليد، اعتبار الشعر غير عصرى لمجرد وصفه الصحراء والإبل.
فهذا الوصف لا يُحسب تقليدًا إلاَّ إذا كان النظم محض مجاراة ومحاكاة للأقدمين بلا ابتكار ولا شعور. وليس هذا شأن من يعيش من المعاصرين فى الصحراء أو على مشارفها، فتجيش نفسه بالشعر والتخيل عن شعور حقيقى وعاطفة تحركت فيه.
وما يثيره الأستاذ العقاد هنا، فرعٌ على ما أثاره وشكرى والمازنى فى حركة الديوان، وجوهرها أن يكون الشعر صادرًا عن عقيدة وعاطفة، لا عن اصطناع وتكلف وتقليد.
ومن هنا فإن من أراد ان يحصر الشعر فى « تعريف محدود»، كمن يريد أن يحصر الحياة نفسها فى تعريف محدود.
لا ينبغى ان يقيد الشاعر أو يتقيد إلاَّ بمطلب واحد يطوى فيه جميع المطالب، وهو
«التعبير الجميل عن الشعور الصادق ».. وكل ما يدخل فى هذا الباب، وصفًا كان أو نسيبًا أو مديحًا أو هجاءً أو وصفًا للأطلال والإبل، فهو الشعر العصرى، أو هو الشعر كما يجب أن يكون الشعر.
وشبيه بهذا الانحصار، ضيق نظر من يريدون أن يحصروا كل باب من أبواب الشعر فى نمط لا يقرون ولا يتخيلون غيره. فهم يحسبون بذلك أن جميع النفوس تجرى فى احساسها وشعورها على وتيرة واحدة، ومن ثم لا تعبر إلاَّ على أسلوب واحد. وليس هذا النظر بصحيح.
يقول الأستاذ العقاد فى مقدمته للديوان:
« لقد سَمَّيْتُ إحدى قصائد هذا الديوان «بالغزل الفلسفى» تحديًا لهذا الضيق السقيم والحجْر العقيم. فقد أَضحكنى بعضهم حين سألنى متباصرًا: وهل الغزل الفلسفى مما يصلح لاستهواء الحبيب ؟ فقلت له: ومن الذى زعم أننا لا نتغزل إلاَّ لاستهواء الأحباء ؟ إنك حين تناجى القمر لا تعنى أن تستهويه أو تخاطبه بما هو أدنى إلى ادراكه، وإنك حين تحكى شعورك بالرياض والأزهار لا تفقه عنك الرياض والأزهار حرفًا مما تحكيه، ولكنك تناجى وتحكى وتتغزل لأنك تعبر عما فى نفسك قبل كل شىء. فالغزل تعبير عما تشعر به حين ترى الوجه الجميل والخَلْقَ القويم، وإذا كانت بعض القرائح تستحضر جمال الحياة بأسرها وما تنطوى عليه من الأسرار حين تنظر إلى الوجوه الجميلة فلماذا يَحْرُم عليها أن تمثل هذا الشعور؟ وإذا كانت بعض الطبائع تقرن بين الجمال وما تستحقه الدنيا من التفاؤل أو التشاؤم وما يغمرها من الخير أو الشر فلماذا يحال بينها وبين التعبير؟ هل لأِن الجمال لا يقع فى معظم النفوس إلا موقع الغناء فى المراقص يُحتَّم على الشعراء أن يغرقوا فى المراقص طوال الحياة؟»
إن ضيق نطاق الحياة هو الذى يلقى فى روع الأغمار ـ فيما يقول ـ هذه الأوهام عن الشعر وأبوابه ومراميه، ومثله ما يُلقى فى روعهم أن الشعر جانب، والجد جانب آخر، وأن هذين الجانبين لا يلتقيان !
لا يصح ولا يتسع النظر إلى الدنيا، ولن يكتمل، إلاَّ بخيال كبير يستوعب ما يراه ويقيس ما غاب على ما حضر، وما يمكن على ما أمكن، وما يتمخض عنه المستقبل على ما درج فى سابق الزمان.
وتلك ملكة لا غناء عنها لعامل ولا عالم ولا شاعر ولا قارئ ولا متعلم.
من يجهلون مدى اتساع الحياة، لا عجب أن يجهلوا مدى اتساع الشعر.
هناك دواوين لبعض الشعراء يستغرق ما فيها فضاءٌ محدود يُقاس بعشرات الأشبار، فلا ترى ولا تشعر ببقية آفاق الوجود، ولا بغرائب الأحاسيس التى تختلف إلى غير نهاية فى كل طور من أطوار النفوس !
فهم الشعر الصحيح، يقتضى تحطيم كل تلك السدود التى ينحصر فيها أصحاب التعريفات من الجامدين أو المقلدين فى إنكار التقليد.
ولنتذكر أبدًا أن « التعبير الجميل عن الشعور الصادق » عالم رحيب لا ينحصر فى قالب ولا يتقيد بمثال !
[email protected]
www. ragai2009.com