انقضت سبعون عامًا ونيف، على التقاتل الأخير فيما بين الأوروبيين، امتدت نيرانه آنئذ لتشمل معظم مناطق العالم، الذى انقسم بنهاية الحرب العالمية الثانية، بين حلفين عسكريين متعارضين، سواء فى منطلقاتهما القيمية والأيديولوجية أو بالنسبة لأهدافهما الاستراتيجية، بين كل من حلف شمال الأطلنطى «ناتو» ممثلاً للكتلة الغربية (ومن فى معيتها.. من الدول التى تدور فى السياق الغربى).. وحلف «وارسو» عن المعسكر الشرقى.. الذى تفكك فى تسعينيات القرن الماضى، قبل نحو ثلاثة عقود من اجتماع قمة الناتو فى لندن مطلع ديسمبر 2019 بمناسبة الذكرى السبعين لتأسيسه، وسط خلافات سياسية وشخصية بين أعضائه.. تشى بموت استراتيجيته «دماغيًّا»، إلا باستثناء توافق قادة الحلف على مواجهة روسيا والصين، ربما كنموذج قيمى شرقى.. مختلف عن الغرب الذى تدبّ الخلافات التحالفية بين أعضائه الـ28، سواء حول نفقاته الدفاعية، أو التهديدات المستقبلية القادمة من قوى عالمية صاعدة، أو عن دور تركيا (اليهوذى) فى شق التكتل الدفاعى للحلف، وليس آخرًا لما تثيره فكرة بناء جيش أوروبى.. كاختبار للدفاع الأوروبى المستقل عن حلف الناتو- أنجح حلف عسكرى فى التاريخ- يمكنه الوقوف أمام تحديات مفترضة، سواء من جانب روسيا والصين.. أو فى مواجهة مخاطر تنظيمات إرهابية، يتفق عليها أعضاء الناتو.. ما عدا تركيا لأهدافها الخاصة التى تلقى تفهمًا من بريطانيا، لأسبابهما، وبرغم المخاوف الفرنسية والألمانية بشأن الاتجاه الاستراتيجى للحلف، فإن قادة الحلف رغم الخلافات، وربما بسببها، قد نجحوا فى الاتفاق على إصدار «إعلان لندن فى نهاية اجتماعاتهم- ليومين- هو الأول الذى يعترف فيه الحلف بالتحدى الاستراتيجى المتزايد الذى تمثله الصين.. التى سارعت بدورها للتحذير من وجود قوى مدمرة تسعى لتقويض علاقاتها مع أميركا، حيث تمر بمفترق طرق خطير بسبب الخلافات التجارية، كما أكد بيان لندن من ناحية أخرى على الحاجة إلى رد فعل منسق ضد الإرهاب، فيما أبقى بيان الحلف من ناحية ثالثة على احتمال إقامة «علاقة بناءة مع روسيا عندما تجعل تصرفاتها- روسيا- ذلك ممكنًا»، إلا أن وكالة «نوفوستى» الروسية سارعت بالنقل من مشاورات روسية – صينية.. خلصت إلى اتفاق حول تعزيز التفاعل الاستراتيجى بينهما، كما ومعارضة التدخل الخارجى.. إلخ، ذلك فيما أكدت الرئيسة الجديدة للمفوضية الأوروبية على صعيد آخر.. قناعتها أن الاتحاد الأوروبى، وليس الناتو، يجب بأن تتوفر لديه القدرة على التحرك فى بعض القطاعات، والعمل على ذلك، وهى التصريحات التى تحوم عنها فى الأفق بعض التساؤلات الوجودية حول إمكانية تشكيل جيش أوروبى جديد لاستكمال، وربما استبدال، الحماية الأميركية عبر الحلف الأطلسى، الدرع العسكرى الوحيد الموثوق به حتى الآن للقارة الأوروبية، فيما ليس من المتوقع تشكيل جيش أوروبى موحد فى المستقبل القريب، لولا تصرفات الرئيس الأميركى ذات الطبيعة التجارية البحتة إزاء حلف الناتو، والتى أثارت الكثير من التوترات لدى زعماء القارة الأوروبية.
إلى ذلك، وإزاء تعمق التباينات عن كيفية التعامل مع التهديد الاستراتيجى من روسيا والصين- بحسب بيان لندن الصادر عن قمة الناتو- وما يتعين على الحلف اتخاذه من خطوات استباقية مفترضة، فإن الولايات المتحدة- لأسبابها- تريد التصعيد مع الصين، والسعى المشروط للاسترخاء مع روسيا، إلا أن للأخيرة ازدواجيتها الاستراتيجية للربط بين الأمرين، ذلك فيما يدعو الموقف الأوروبى إلى حوار إيجابى مع الصين، وهو ما يقارب موقف الأمين العام لحلف الناتو بقوله.. بأن الحلف رغم إدراكه لأهمية التصدى للتأثيرات الأمنية عن تنامى القوة الصينية، لكنه لا يرغب فى جعلها عدوًا، الأمر الذى ينطبق بدرجة أكبر على مستوى العلاقات الروسية – الأوروبية ذات العوائد الاقتصادية المجزية للجانبين، ذلك فى الوقت الذى لم تعكس قمة الناتو فى لندن أجواء احتفالية- إن لم يكن النقيض من تلاسنات ساخرة.. بقدر ما أحدثت شروخًا عميقة على النحو الذى ظهر على الملأ خلال يومى القمة المتوترين، ما يدفع للتساؤل حول مستقبل الناتو فى ضوء تضارب سياساته وغياب استراتيجيته الواضحة، ولا سيما فى التفرقة ما بين العدو والصديق.