السخرية من مشروع الزعيم الراحل ميخائيل جورباتشوف أمر بالغ السهولة، ويمكن طبعا التنديد بسذاجته، ولكن نسبة الانهيار السوفييتى إلى هذا المشروع تجنٍ كبير على رجل عظيم، فهو ورث نظاما سياسيا واقتصاديا مشلولا متحجرا غير قادر على التعامل مع الثورة التكنولوجية ولا مع تعقيدات مجتمع حديث تريد مكوناته الرخاء و/أو الحرية ولا حتى على معرفة ما يدور على أرضه وفى داخل البلاد، نظام لا مصلحة لأحد فيه فى قول الحقيقة ولا رقم دقيق متاح. وكارثة المفاعل النووي وأسلوب التعامل معها يلخصان المشكلة.
مشروع جورباتشوف جاء من جولاته فى أوروبا الغربية وتحديدا إيطاليا وفرنسا، بلدان فيهما حركة شيوعية لها جمهور كبير يؤمن بمشروعها، ويحشد نفسه لنصرتها دون ضغوط فوقية وإجبار وتوجيهات، الشيوعية إذن قادرة على إقناع مئات الآلاف من الأحرار. جورباتشوف كان مؤمنا بالماركسية وبالنظام الشيوعي ومقتنعا أن الجماهير إن ترك لها الأمر ستختاره وتعمل على إنجاحه، وأن القمع والقهر والكذب الفردي والجماعى ومعاقبة من يقول الحقيقة هم أسباب الأزمة والجمود.
لم ينتبه إلى كون تأييد الجماهير للشيوعية فى الغرب هو تأييد ممن لم يجرب النموذج، وأن هذا النموذج لا يستطيع أن يتعامل مع حرية الفاعلين، ولا مع رفض الكثيرين له، ولا مع قناعاتهم الدينية، وأن الخطط الخمسية السوفيتية تفترض فرضا غير واقعي.. أنه يمكن التنبؤ بمسار الاكتشافات العلمية والمستجدات التكنولوجية، ولا يتسع المجال للاستفاضة فى أوجه قوة وضعف النظام الشيوعي الشمولي. أكتفى بالقول أن الماركسية كفكر نقد عميق وهام لآليات عمل النظام الرأسمالي وتناقضاته، أثبت ماركس أن هذا النظام غير قادر على ضبط نفسه وعلى العمل بدون هزات عنيفة جدا وعلى تحقيق المساواة، ولكنه تنبأ بانهياره الكامل وهذا لم يحدث إلى الآن، يضاف إلى هذا أن كلامه عن النموذج الاشتراكي كلام تافه وساذج – ولا نخوض هنا فى الفلسفة الماركسية للتاريخ.
قيام جورباتشوف بفتح الباب للحريات أضاف أزمات سياسية قاصمة إلى أزمات النظام المتعددة. لم ينتبه إلى حقيقة واضحة ناصعة… الشعوب المستعمرة لا تقبل الاستعمار طواعية، وعندما فهم هذا كان الوقت تأخر، ويذكر لجورباتشوف أنه انحنى أمام إرادة الشعوب ولم يتصرف كشيوعى أو كقومي روسى غبى ومتعصب.
يمكن القول أن جورباتشوف – الشيوعي المخلص- رفض اللجوء إلى القمع الوحشي الضروري للإبقاء على الإمبراطورية، ولوقف الانهيار الكامل للنظام الاقتصادي الروسى، وأستغرب من تصديق شعوب عانت من ويلات الاستعمار للكلام الروسي المندد لغباء هذا الزعيم العظيم، أما خليفته يلتسين فكان يرى أن روسيا لا تستطيع أن تتحمل كلفة الاحتفاظ بالمستعمرات أو استرداد ما استقل، فهي كلفة مالية ومعنوية وعسكرية وسياسية باهظة، وكان يلتسين رافضا لعقيدة الدولة الروسية التي ترى فى هذه المستعمرات حزاما واقيا وأن لا أمنا روسيا دون إخضاع كامل لدول وشعوب الجوار. والمشكلة أن الرجلين لم ينجحا فى تأسيس تحالف اجتماعي يؤيد توجهاتهما، وأن وزارات ومؤسسات القوة ظلت متمسكة بالعقيدة الإمبراطورية. وكان جزء كبير من الرأى العام معها.
هذا التصوير المبسط يشرح معضلة السياسة الأمريكية أثناء ولاية الرئيس بوش الأب وولايتي الرئيس كلينتون، الرئيسان كانا مغتبطين لتحرر شعوب أوروبا الشرقية ولانتهاء الحقبة الشيوعية، ولكنهما كانا مرعوبين من مخاطر وتبعات الانهيار الكامل للإمبراطورية والدولة السوفيتية ومن شبح الحروب بين مختلف مكوناتها، ومن شبح الانفلات النووي وفقدان السيطرة على الأسلحة، أى أنهما كانا شديدى الحرص على منع الانهيار الكامل غير راغبين فيه. ومن ناحية ثانية كانا مدركين لحجم المقاومة الداخلية لفكرة التنازل عن الإمبراطورية فى روسيا، وبالغي القلق من خطاب المعارضين لهذه الفكرة ومن تهديداتهم لكل الشعوب «المملوكة» لروسيا والتى تحررت.
لم تكن للولايات المتحدة أى مصلحة فى إفشال تجربة الرئيس يلتسين ولا فى إذلاله.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية