كلام عن الثقافة والمثقفين
أنا على أعتاب الشيخوخة وما زلت عاجزًا عن تشكيل تصور عن مهمة المثقفين وواجباتهم تجاه الوطن والبشرية. هناك أصدقاء يرون أن المثقف ضمير وصوت الأمة يتكلم ويحشد ويضحك ويفضح باسمها، هناك من يرى فيهم أحد الشريكين الأساسيين- الثانى أو الأول هو المؤسسة العسكرية- فى مشروعات بناء دولة حديثة ونهضة مصر وفى مشوار تحررها الوطنى. هناك من يعتبرهم قوة مصر الحقيقية، أو على الأقل إحدى ركائز وعناصر هذه القوة- هم القوة الناعمة، هناك من يتصرف وكأنه يحارب المجتمع فى صورته الحالية- المتخلفة فى رأيه- باسم مستقبل باهر لن يتحقق إلا بإزالة سلبيات اليوم، هناك من يرى أنه يدافع عن الشعب المسكين ضد بطش الدولة، ومن يرى أنه يدافع عن عقلانية الدولة ضد همجية الجماهير، وهناك من يرى أن وظيفته مدّ تيار سياسى أو اجتماعى أو طبقة ما بمشروع متكامل وبتحليلات سياسية واجتماعية واقتصادية تنير الطريق، وهناك من يرى فى نفسه «صنايعى» منتجًا لسلع تعبر عن شخصه وتسهم فى تهذيب الأخلاق والذوق العام وتشكيل معارف عمومية، وطبعًا هناك من يرى أن وظيفته تفسير الدين، أو على الأقل عدم ترك التفسير لرجال الدين، ومن يرى نفسه حارسًا للثقافة المصرية؛ شعبية كانت أم نخبوية فى مواجهة المدّ الأصولى الكاره للفكر البشري، وهناك من يرى أن مهمته نقل المعارف الأجنبية وتمصيرها، وطبعًا هناك من يطبل للدولة، ومن يطبل للشعب، الأول يرى فى الثانى نصيرًا للغوغاء، والثانى يرى فى الأول عبدًا للحاكم، وهناك من يزعم أمام الأجانب أنه يمثل «الصوت المصرى الحقيقى»، وهناك من يحلم بالثورة، ومن يحلم بالثروة، ومن يحلم بالاثنين (ولن أضيف لو اجتمعا فإن الشيطان ثالثهما)، ومن يحلم بكرسى الوزارة، ومن يحلم بجوائز أجنبية ومن فقَد القدرة على الحلم.
الحياة الثقافية المصرية صاخبة، وعدد المنخرطين فيها ليس بالقليل. من الصعب قياس تأثيرهم على باقى المجتمع، ولكنه غالبًا أكبر بكثير مما يقوله محترفو البكاء على أطلال الزمن الجميل، وأقل بكثير من تأثير المؤسسات الدينية. وفقًا لصديق لم أستأذنه، فلن أذكر اسمه، فإن هذه الحياة تعانى من الشللية، وهى ضرورة نظرًا لصعوبات الحياة وعدم استقرار الدخول، ولكنها تؤثر سلبًا على تقييم الأعمال والجدل العام، وطبعًا على توزيع الجوائز. ومن ناحية أخرى فإن المنتج الثقافى له عدد من الأعداء المتربصين به أو من المراقبين الخائفين منه.
وهناك قضية شائكة لا أريد الخوض فيها الآن… لأننى لم أفكر فيها قبل بداية تحرير المقال… وهي… هل صناعات الترفيه… الأغانى والمسرح والسينما وغيرها… نصير للثقافة أم خطر عليها. أعتقد دون دراسة معمقة أنها ستكون مسرحًا لمعارك بين الثقافة وأعدائها… وأن الغلبة فى هذه المعركة ضرورية لمستقبل البلد ولقوتها الناعمة، وستكون أيضًا مسرحًا لمعارك أخرى بين المدافعين عن الثقافة الرفيعة، وبين أنصار مغازلة ذوق الجماهير الشابة… وشخصيًّا أتمنى أن يتسع المجال للجميع، وأن يتحرر أكبر عدد ممكن من الفنانين من أغلال الرقابة الذاتية، وهى قيد قد يكون أشد وطأة من القيود الأخرى. والرقابة الذاتية ظاهرة تستحق الدراسة؛ لأنها حاكمة لسلوك عدد كبير من المصريين، ولا شك أن لها فوائد كثيرة؛ لأنها تفرض مثلًا أدبًا فى المعاملات، وانتباهًا يقظًا لمشاعر الآخر، وتهدئة لحِدّة الاحتكاكات، وكل هذا محمود، ولكنها فى الوقت نفسه قمع للتفكير وقمع للتعبير وفرض لنمطية كئيبة. حاولت قراءة بعض الروايات مؤخرًا، ووجدت بعضها يقيم ثنائيات سخيفة بين الخير والشر وغارقة فى السطحية عند تناول المشاعر المحرِّكة للفاعلين وفى الحبكة… إلخ.
عندما شرعت فى كتابة أول جمل هذا المقال كنت أريد التحدث عن نفسى وهمومي، وما أسخفها! ولكننى وجدت أن القلم والذهن والقلب تدفعنى إلى زاوية أخرى ولو مؤقتًا.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية