بين التأليه والشيطنة (1)
ما يدفعنى إلى الكتابة فى هذا الموضوع هو طبعا الحملة ضد المذيعة عزة مصطفى لأنها تجرأت وقالت رأيها فى رجل دين تحبه جماهير غفيرة من المسلمين. ولا أريد أن أشخصن الموضوع ولكننى أتشرف بمعرفة المذيعة وأعرف كم هى متدينة غيورة على دينها محترمة لرموزه وكم هى محافظة دينيا محافظة تحد من حدتها روح تسامح جميلة وفهم عميق لنقاط قوة وضعف البشر. ومتأكد أن عزة هانم لا تبحث عن الشهرة ولا عن فرقعة إعلامية وهى ليست بحاجة إليها، وهى شديدة الاحترافية وشديدة التمسك بأصول الإعلام.
وما يدفعنى أيضا إلى الكتابة تعليق قرأته على الموقع الاجتماعى «فيسبوك» لصحفية معروفة وقديرة وملمة بدقائق الملفات التى تخصصت فيها، قالت فيه إن لم تخنّى ذاكرتى «لست ناصرية وبالتالى أرى أن ناصرا مسؤول عن النكسة»، وما ضايقنى فى هذا التعليق الواصف بدقة للواقع أنه يعنى أن اعترافك العلنى بمسؤولية ناصر عن هزيمة 67 يخرجك من الملة الناصرية. وأنا شديد التمسك بجوانب جوهرية من مشروع ناصر ولكننى لا أرى كيف يمكن إعفاؤه من مسؤوليته.
فى قضية التقديس والتأليه وحرية النقد وثوابت المجتمع تحكمنى اعتبارات متناقضة، من ناحية أنا جامعى والعمل الجامعى يفترض حرية النقد والبحث، ويحتاج بشدة إلى مجتمع داعم لهذه القيم، وكجامعى أعلم تماما أن عددا معتبرا من المحسوبين على المهنة – فى مصر وغيرها بما فيها الدول الغربية- يجمع بين الزعم بتقديس هذه الحرية ومحاربتها فى الواقع وإساءة استخدامها بمعنى أنه لا يمارسها إلا عندما تتفق ومصالحه، ولا يتعامل مع الرأى الآخر برحابة صدر، وفى الوقت نفسه لا يهتم بتبعات كلامه السياسية والاجتماعية ولا يعير أى اهتمام لاعتبار آخر وهو «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها».
من ناحية أخرى، أنا مواطن مصرى يؤمن بدين ليس دين الأغلبية وبمذهب غير مذهب الأقلية، وبالتالى أتعامل مع ضرورة منع الفتنة بجدية بالغة، وأرى ضرورة عدم التهاون مع مشعلى الحرائق ومع حاملى الدعوات إلى التخريب، وكمواطن متابع لشؤون وطنى أعلم تماما كم يساء استخدام الدعوة إلى منع الفتنة لقمع أى رأى مهما كانت حصافته ونية صاحبه، وللتستر على عيوب قابلة للعلاج، وعلى آفات قاتلة وللحفاظ على تراتبيات ضررها أكبر من نفعها ولحظر مناقشة مفاهيم تحتاج إلى مراجعة ولممارسة سادية للمنع والحظر والعقاب.
وكإنسان أحتاج إلى الحرية المطلقة وما أحوجنى إليها، ولكننى كإنسان أيضا أحتاج إلى استقرار وأمان وإلى ثوابت أؤمن بها، وما أحوجنى إليهم.
لا أكتب هذا لمسك العصا من النصف كما يقولون، أكتب هذا لأقول أن هناك اعتبارات متناقضة، وأن الموازنة بينها تختلف مع اختلاف العصور والمجتمعات والظروف، وفى كل الأحوال هناك سؤال يفرض نفسه، هل تقتضى الحكمة من المشرع أن يناهض التيار الجارف أم يقاومه، هل يدعمه لمضاعفة أثاره أم يدعمه بطريقة تحد من مساوئه أم يتصدى له وهل يتصدى له بلين أو بحزم. وفى كل الأحوال يجب التمييز الدقيق بين مزاج الجمهور ومزاج جماعات المصالح صاحبة الصوت العالي، وطبعا هناك عشرات من الاعتبارات الأخرى تحكم العمل التشريعي.
أعود إلى مصرنا الحبيبة، أعتقد أنه من الواضح أن كفة «منع الفتنة» وحارسى وبلطجية الحفاظ على الأخلاق والثوابت والقيم والرموز ورموز الرموز والأصول راجحة ساحقة، ومن الواضح أن هذا الوضع شديد الخطر على مستقبل البلاد ونهضتها. فهو قضى أو فى سبيله إلى القضاء على القوة الناعمة، ويجيز التنمر على أصحاب كفاءات يحتاج الشعب والدولة إليها، وعزة مصطفى منها، شأنها شأن عشرات الآلاف غيرها، ويزرع ثقافة وعقلية الخوف وعدم المصارحة والنفاق والكذب والتنمر على النساء. والمفارقة أن الخائفين من الفتنة أصبحوا أهم مشعليها. فى الأسبوع القادم أعود إلى هذه القضية.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية