مذكرات مواطن مهموم 164

توفيق اكليمندوس

8:33 ص, الأحد, 13 نوفمبر 22

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

8:33 ص, الأحد, 13 نوفمبر 22

لا تعلنوا أفول الولايات المتحدة (4)

أعتذر للقارئ إن اتسمت هذه السلسلة من المقالات بعدم التنظيم، فما زلت أبحث فى موضوعها، ولأكون دقيقًا، حدسى وذاكرتى وانطباعاتى قامت بتشخيص يلخصه عنوان السلسلة، وأحاول الآن دعمه مع قبول احتمال خطئه.

البحث فيه يقتضى التبحر فى نظريات الأفول، وعرضت لبعضها فيما سبق، ويقتضى عقد مقارنات بين أحوال الولايات المتحدة ومنافسيها، والمقارنة عملية محفوفة بالصعوبات المنهجية والعملية، ويقتضى البحث فى علاقات وموازين القوة ومساراتها المحتملة، وأعتقد أننى لو تفرغت للموضوع كاملًا سأدرك أنه يتطلب الرد على أسئلة أخرى.

كلامى اجتهاد يحتمل الصواب، ويحتمل الخطأ، وأحذِّر القارئ من الذين يدّعون أن كلامهم «علمى»، فالسياسة والإستراتيجية والتاريخ «فن» و«ثقافة» و«حكمة» قبل أن تكون علومًا، هى علوم لأن هناك أدوات وقواعد منهجية وتحليلًا لأصول الظواهر، ولأن نتائج الدراسة قابلة للنقاش مناقشة نقدية عقلانية، ولكنها ليست علومًا لأن ذات الباحث وتفضيلاته تلعب دورًا فى البحث، ولأن التجارب والاختبارات غير ممكنة، وإن كانت ممكنة فستكون غير حاسمة، وأخيرًا وليس آخرًا فإن السببية وهى مفهوم يحمل فى طياته فكرة التكرار؛ لأن السببية تعنى أنه كلما تجمعت العوامل أ، ب، ج، نصل إلى النتيجة ن، السببية مفهوم إشكالى فى هذه المجالات المعرفية.

بين كتابة هذه المقالة وسابقتها قرأتُ عدة دراسات عن الصين نُشرت فى مجلات ومواقع فكرية أمريكية وفرنسية، اشتركت فى رسم صورة قاتمة تمامًا لمسار الصين فى العقد الماضى، تتلخص فكرتها فى بيان الآثار السلبية لخيارات وسياسات الزعيم الصينى الحالى، التى قامت على إحكام السيطرة والرقابة على المجتمع ونشاطه الاقتصادى، وعلى استعادة الدور الريادى للحزب الشيوعى، وعلى مضاعفة الإنفاق العسكرى، وعلى تكبيل القطاع الخاص بقيود أثّرت على عطائه، وعلى مشروعات الحزام والطريق، وعلى بث خطاب قومى متطرف وعدوانى يدغدغ العواطف السلبية، وتقول هذه الدراسات أيضًا إن إدارته للتصدى لجائحة كوفيد كانت كارثية، فسياساته اقتصرت على فرض حظر تجول صارم عطّل الاقتصاد… وأن دبلوماسية «التأديب»- معاقبة كل من ينتقد الصين- دفعت دولًا كثيرة إلى التزام الحيطة فى تعاملاتها مع بكين.

باختصار يقولون إن الزعيم الحالى جمع بين سياسة داخلية يسارية ومتطرفة، وبين سياسة خارجية يمينية متطرفة، وأنه أفسد الكثير مما أصلحه أو أقامه سلفه العظيم دنج هسياو بنج؛ أحد عمالقة القرن الماضى. لست متأكدًا من أن كل هذا الكلام أو بعضه صحيح، لكننى أعرف أن الصين تواجه عددًا من المشكلات الجسيمة؛ منها انعكاس الهرم السكانى، وتباطؤ النمو، وتراجع بعض المؤشرات. ولديَّ ميل إلى تصديق من يقول إن التضييق الشديد على الحريات له آثار سلبية هامة؛ إن عاجلًا أم آجلًا.

طبعًا هذه القراءات لا تكفى لتحويلى إلى خبير فى الشئون الصينية، ولا أدّعى أننى ضليع فى الشئون الأمريكية، لكننى أستطيع أن أقول إنه لا هذا ولا ذاك يُعدّ مجتمعًا مثاليًّا، وتفضيليًّا للولايات المتحدة وللحياة فيها، لا يعنى أنها ستخرج منتصرة أو متصدرة فى مواجهتها أو سباقها مع الصين. وأظن أننى أستطيع أن أقول إن الصين عرفت فى 73 سنة ثلاثة نماذج سياسية اجتماعية بينها اختلافات واسعة رغم اشتراكها فى هيمنة كاملة للحزب الشيوعى، وأن الانطباع القوى الذى تشكَّل عندى هو أن النموذج الثاني- نموذج الزعيم دنج- كان أكثرها نجاحًا. سؤال فرعى له أهمية، ولكننى لا أملك أدوات الرد عليه، هو: هل كان التخلى عن نموذج دنج فى النصف الأول من العقد الماضى عائدًا إلى ضغوط هيكلية فرضته أم هو قرار شخصى لزعيم كان أكثر إيمانًا من دنج بالأيديولوجية الشيوعية؟ وهناك أسئلة أخرى حول توقيت هذا التخلى وإمكانية التراجع عنه.

أيًّا كان الأمر يبقى سؤال موازين القوة فى آسيا وفى العالم، وأحاول الخوض فيه لاحقًا.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية