على طول تاريخ العراق العظيم، لم يبتل بمثل ما أصبحت عليه معاناته منذ الغزو الأمريكى لأراضيه فى أبريل 2003، سواء بالتحرر من الاستبداد المحلى جنباً إلى جنب الاحتلال من الأجنبى بالمخالفة للقانون الدولى، بسيان، ما أربك مسيرة العمل العربى السياسى، خاصة من بعد أن أدارت واشنطن ظهرها للشراكة مع القاهرة.. نحو التعامل الخشن معها إيذاناً بإسقاط نظامها فى العام 2011، إذ رغم التنافس الدبلوماسى غير الخبيث فى معظم لأحيان بين القاهرة وبغداد، يظل تعاونهما معلماً رئيسياً فى الصرح العربى الإقليمى، والعكس صحيح.. حين تفترق بينهما السبل تحت ضربات الخصوم التاريخيين، بأقله.. منذ أعيد تخطيط حدود العراق (الصندوقية) فى العام 1921 بناء على تقسيمات اتفاقية سايكس – بيكو 1916، بشكل يضمن بقاء حضارة بين الرافدين مع حضارة وادى النيل.. فى إطار التحالفات الاستراتيجية الغربية.. التى ثار ضدها البلدان على التوالى فى 1952 و1958، إلا أنه سرعان ما اتجه الحكام الجدد فى العراق (قاسم) صوب الأممية الاشتراكية فى مواجهة التيار القومى الذى استرد السلطة فى 1963 (عارف)، قبل انقلاب حزب البعث 1968، (البكر – صدام)، منتهزاً انشغال مصر آنئذ بالتصدى لإسرائيل.. ليحاول التسلل إلى أوضاع مصر الداخلية، بين صفوف العمال والقوات المسلحة، الأمر الذى تعففت معه مصر عن التعامل بالمثل بالنسبة لتحريك الدعوات الانفصالية للأكراد، حفاظاً على عروبة السيادة العراقية.
خلال عقد السبعينيات، تصدرت قضية الحرب مع إسرائيل مساحة العمل العربى الإيجابى المشترك، وما إن سكتت المدافع إلا وأدت عملية السلام إلى عدم توازى الخطوات بين القيادتين القطريتين لحزب البعث فى سوريا والعراق.. اللتين قادتا تجميد عضوية مصر فى الجامعة العربية، ومنظماتها فى العام 1979، فيما جرى استنزاف كل من الجيش السورى فى الحرب الأهلية اللبنانية، وتوابعها 1976 – 2005، والجيش العراقى فى الحرب مع إيران طوال الثمانينيات، قبل إقدامه على مغامرة غزو الكويت 1990، حيث تلقّى ضربة قاصمة من التحالف الدولى لإجباره على الانسحاب 1991، إيذاناً بحصر العراق إلا من خلال «النفط مقابل الغذاء»، حتى الغزو العسكرى الأميركى الذى أعاد صياغة الحياة السياسية اللاحقة للبلاد، إذ حلَّ الفساد المعمم والمحاصصة والتوتر الطائفى، فأفقرت العراقيين وحصدت أرواح الآلاف المؤلفة منهم، ذلك رغم توالى الحكومات من علاوى- الجعفرى- المالكى- العبادى- عبدالمهدى، وسط ضرورات أمنية ودبلوماسية، ما إن تتطلع إلى المستقبل إلا ويرتد البصر خاسئاً إلى أرض الواقع وسط الانقسامات العراقية التى تأكدت بالمحاصصة بين الأحزاب التى جاء بها الاحتلال، ناهيك عن المظاهرات التى تعم أنحاء البلاد من أكتوبر 2018 راح ضحيتها المئات من الشباب، قبل أن يجئ إلى رئاسة الحكومة «مصطفى الكاظمى»، من خارج النادى الإيرانى والقوى الشيعية الطائفية، مطالباً بتصويب المعادلات التى حكمت العراق منذ 2003، إذ ربما يساعده ذلك فى مهمته الصعبة كون مجيئه على رأس الإدارة يلقى استبشاراً من الفرقاء العراقيين، ومن القوى الأخرى المعنية بالحالة العراقية، كل لأسبابه، وليستهل مهمته بإعداد خطة شاملة للسيطرة على المنافذ الحيوية مع دول الجوار (إيران – تركيا..)، وبإجراءات تستهدف حصر السلاح لفرض هيبة الدولة، إلى إعادة اختيار قادة الأجهزة الأمنية، مع الوعد بإجراء الانتخابات.. إلخ، إلا أن حكومة «الكاظمى» الجديدة أمام خيار صعب ما بين مهادنة الميليشيات المتطرفة كسباً للوقت، فيخسر الحرب ضدهم.. وبين استعجال المواجهة ضد الخارجين على القانون فتندلع معركة من الصعب السيطرة على نتائجها، يبدو أنها قد بدأت بالفعل من جانب الخارجين على القانون (اغتيال هاشم الهاشمى)، وليبقى السؤال حول من سوف يساند الحكومة العراقية الحالية فى تحقيق العدالة التى طال غيابها؟
إذ يرتكز الأمر بادئ ذى بدء للخروج بالعراق من أزمته على الجهود الوطنية للبيت الشيعى الذى لم يوافق على تسليم السلطة إلى «الكاظمى» لولا خشيتهم من اندلاع حرب أهلية شيعية – شيعية إلى جانب جهود البيوتات السياسية الأخرى من السُّنّة والأكراد حال تخليهم عن فكرة السلطة على حساب الدولة، وبالطبع فإن احترام الدولة يعنى احترام حدود العراق لمنع الخروقات المتعددة من إيران وتركيا، سواء عبر الميليشيات الإيرانية أو القصف الجوى التركى، وحيث تتلقى جهود «الكاظمى» فى هذا الصدد.. دعماً شيعيًّا «مشروطاً» بإجراءات مماثلة على معابر إقليم كردستان لضبط الحدود، بينما يدعو الرئيس العراقى «برهم صالح» إلى إقامة نظام إقليمى، وإلى بناء موقف دولى داعم لإيقاف الخروقات التركية المتكررة على الأرض العراقية، إلا أن عدم امتلاك العراق «قوة جوية» تحميه، تتطلب الحوار الاستراتيجى مع الولايات المتحدة لتقدم ما هو فى مصلحة العراق، ولو كان ذلك على غير ما يرضى الأصوات الحزبية ذات الميول الإيرانية أو التركمانية، بسيان، ما يضع مهمة رئيس الحكومة العراقية فى مأزق غاية فى الصعوبة إزاء هذه المجموعات الطائفية التى تجتاح العراق، ذلك ما لم تجد الدعم من العراقيين فى المقام الأول، وأيضاً من قبل الدول العربية المعنية بالحالة العراقية.. كمصر والسعودية، مثالاً، وحيث يقول فى هذا الصدد زعيم عراقى سابق «إذا جاع العرب أطعمتهم مصر، التى إن سقطت سقط العرب والعكس صحيح». وليبقى إحياء الجيش الوطنى ملاذاً أساسياً للحفاظ على سلطة التغيير، وفى المحافظة على الدولة الوطنية القادرة على رفض الميليشيات العسكرية من أمثال الحشد الشعبى، و«حزب الله» و«عصبة الثائرين».. وغيرها، وليبقى العراق مستمسكاً بعروبته مستخلصاً مقاديره من الوصايات الإقليمية والدولية، لينجلى من ثم الليل الطويل عن «ليلى المريضة» بالعراق.