كيف نحول المعرفة الباطنية للمتقاعدين إلى قيمة تقنية فى صنع المستقبل؟ (2-3)
على صعيد آخر لا تلتزم الكيانات دومًا بآراء منسوبيها أو وجهات نظرهم، وقد تتجه لأبعاد أخرى تتفق مع مصلحتها أو مصالح إدارتها العليا أو كبار مساهميها أو موظفيها، فى جميع الحالات تتراكم المعرفة الباطنية غير المستغلة للأفراد بداخلهم، وتكون رصيدًا ضخمًا لديهم من معرفة أسباب الفشل أو النجاح الكامل بدل الجزئى، أو التطوير المطلوب بدل التجمد، أو الاقتصاد الحقيقى عوضًا عن التفريط أو الإفراط. وبانتهاء علاقة الفرد بالكيان لأى سبب، تموت هذه المعرفة الباطنية ويخسر الكيان معرفة فنية أو حلولًا أو أفكارًا أو ابتكارات، لم تُستغلَّ فى وقتها أو تم تجاهلها لأسباب مختلفة.
لكل ذلك وجد علميًّا ما يُعرَف بإدارة المعرفة، ولكن فى تقديرى أن عالمنا الثالث ودولنا العربية لم تأخذ هذا العلم بجدية كافية، وهو ما يظهر فى تذبذب نجاح وتدهور مسيرات، اعتمدت فقط على فكر وقرارات الإدارة العليا والملفات الخرساء فقط، دون الانتباه الكافى للمعرفة الباطنية لأفرادها، وعدم تأسيس طرق حقيقية تسمح لها باستحضار وتحليل بيانات ومعلومات ومعرفة المتقاعدين والمستقيلين، والعمل على نقلها بصورة تقبل الاستفادة منها وتطويرها واستخدامها.
أكثر ما تظهر فيه قيمة هذه المشكلة فى الأزمات الكبرى والتحولات الكبيرة، التى تفقد فيها الكيانات معرفة أفرادها باختفائهم من المشهد الحياتى. ومن هنا أصبح شاغلى الحقيقى كيف تتجنب الكيانات الفجوة بين المعرفة الباطنية لأفرادها، المهددة بالاختفاء أو الموت، وبين واقعها المتطلع لاستمرار آمن؟ كيف ننتقل لما بعد مفهوم الأرشفة والحفظ والتوثيق الاستاتيكى للمعلومات كما كانت- ونجعل معلومات المعرفة الباطنية والمعرفة الفنية تتحول إلى كائن حى ديناميكى ينضم لكتيبة جنود الكيان فى استمراره ونموه؟
أكثر ما لفت نظرى هو قسم خاص داخل المعرفة الباطنية للأفراد متعلق بمنهجية (ماذا لو/ what if)، ونظرًا لعدم اعتياد البيئة العربية/ الشرقية على فنون الاستماع والاختلاف وآداب المناقشة واحترام الرأى الآخر، فقد وجدت أن مفهوم (ماذا لو) يتضمن إشكالية ماذا لو كنت أخذت بالرأي؟ ماذا لو كنت سمحت باعتراض موضوعى يُثبت وجهة نظره؟ ماذا لو منحت فرصة التجربة؟ ماذا لو كانت ثقافة الكيان تستوعب (صندوق الأفكار والمقترحات والمشاكل)؟ ماذا لو كان هناك (إدارة الحقيقة) وهى فكرة تهتم بجمع الحقيقة من وجهة نظر مصدرها بشرط إثباته لها رغم الظواهر المعاكِسة؟
تخيل حجم البيانات والمعلومات والأفكار والآراء والحلول التى قد يجنيها الكيان مجانًا، مقابل تعديل ثقافة نظرته لمنسوبيه، بسماحه بإعلان الاختلاف دون عقوبة أو عزل أو تجميد؟ كم مِن العمالة المستمرة يتراكم لديها حلول لأزمات وأسباب لنجاح وتطوير لجمود وتشخيص لمشاكل ومعلومات بالأسباب الحقيقية للوقائع الضخمة؟ كم عندهم من المهارات والخبرات المستخلصة من التعامل مع العملاء والزبائن، التى تحولت لشفرات سرية تربط العملاء بالكيان بسببهم، وتذبل بتقاعد الفرد أو استقالته أو وفاته، ليقع الكيان فى مشاكل تواصل وفهم وتحليل احتياجات وأخطاء تنفيذ.. إلخ.
من هنا أتوقع أن نجد الحل فى أهمية استثمار الكيان بمنظومة (النظم الخبيرة)، المقصود بها برامج الكمبيوتر التى تستخدم أساليب الذكاء الاصطناعى لحل المشاكل داخل مجال متخصص يحتاج لخبرة بشرية. تعتمد النظم الخبيرة على قاعدة معرفة تؤسس من مجموعة منظمة من الحقائق داخل الكيان (معطيات موضوعية عما يتم تنفيذه فعليًّا ومعطيات مضافة مستحدثة تقارن عليها)، ومحرك استدلال يقوم بتفسير وتقييم هذه الحقائق مع قاعدة المعرفة لتقديم إجابة أو مشورة أو دعم اتخاذ قرار.
القيمة الحقيقية للمستمرين بالعمل أو للمنتهى انتسابهم للكيان؛ سواء بالاستقالة أو التقاعد، هى تحويل النظم الخبيرة لمعرفتهم الباطنية إلى مجموعة معلومات موضوعية، لها أصول فى المستندات والواقع، وتحويلها إلى وصف حقائق (ذات طبيعة خاصة)، تسمح ببناء/ استكمال قاعدة المعرفة، لتغذى نظمًا خبيرة تسمح بالاستفادة من معرفة هؤلاء الأفراد، بتحليلها وردّها/ مقارنتها إلى أصول أخرى عن الوقائع نفسها، وتفسيرها وتوقع النتائج؛ للخروج منها بمعلومات لها قدر من المصداقية، التى تسمح بخيارات بديلة لمشكلة ما، كوضع أو تعديل رؤى أو خطط أو استراتيجيات أو دعم اتخاذ قرار.
وللحديث بقية.. غداً
- محامى وكاتب مصرى