مايسترو حياة بدرجة قائد حرب

مايسترو حياة بدرجة قائد حرب
محمد بكري

محمد بكري

6:48 ص, الأثنين, 9 أغسطس 21

قديما قال بيتهوفن «لو كنت أقود جيشا كما أقود الأوركسترا، لهزمت نابليون بونابرت»!

ما هذه العبارة الصادمة التى تجمع التحدى بين نوعين من القيادة ؟

قيادة عازفى الموسيقى ومترجمى المعانى والصور المعنوية والحركة فى الفراغ، وبين قيادة الجيوش، عازفى الدماء ومترجمى طموح الأمم وحفظ وجودها.

مراجعة تاريخ بيتهوفن وبونابرت، أمر مرهق فكريا ونفسيا وفلسفيا! فكلاهما شرب من معين التمرد الذى لا يتوفر إلا بعاملين؛ إما الشعور بالكبرياء والبطولة، وإما الشعور بألم أو مأساة أو هزيمة مؤقتة.

واقع الأمر أن هذه العبارة هى مفتاح فهم التمرد على النموذج، المثال، القدوة، ونحت قدر جديد للمتمرد!

كان نابليون وحى القوة لبيتهوفن فى شبابه، الذى ألّف له سيمفونيته الثالثة الشهيرة «البطولية»، على إثر دفاعه عن الثورة الفرنسية ضد بروسيا وإيطاليا، وفرضه واقعا عسكريا فرنسيا جديدا مشبعا بروح وقيم ومبادئ الثورة الفرنسية. لتنتقل روح قيادة الجيوش والدفاع عن مبادئ الثورة إلى روح بيتهوفن الوثابة، وينطلق قائدا للأوركسترا كما يقود بونابرت جيشه، حتى تغزو «البطولية» مسامع وعقول العالم.

إلى أن انقلب بونابرت دكتاتورا يطيح بمبادئ الثورة الفرنسية ذاتها، فيشطب بيتهوفن اسمه من مدونته «البطولية» ويبدل الإهداء، ويطلق تمرده الخالد «لو كنت أقود جيشا كما أقود الأوركسترا، لهزمت نابليون بونابرت»!

إذا كانت التراجيديا هى مزج الحزن بالكبرياء، وشعور المرء بأنه لا يستحق الألم الواقع عليه أو أنه يستحق أفضل من ذلك، فإن تراجيديا قدر نابليون وبيتهوفن كتبت لهما الخلود فى الفن والحرب، فى التمرد والتجديد، فى الفكر والاستحداث، ليبقى صراع قيادتهما للمعنوى والمادي، التحدى الخالد لتحقيق معادلة الفوز والاستمرار!

المشكلة دوما لم تكن فى مثال نابليون أو بيتهوفن، ولكن فى صناعة أو الوصول لنموذج قيادتهما فى استيعاب وترويض وقيادة المعنوى والمادى وضبط مستوى التمرد على التقليدية والعادية!

صناعة القيادة ستكون همّ القرن الواحد والعشرين وتحديه الأكبر! الإشكالية لن تكون فى النجاح أو التفوق أو التميز! ولكن فى استحداث أجيال جديدة من الذئاب القادرة على استكمال وتبديل قيادة القطيع فى أى وقت! فالدراسات أثبتت أن كل ذئب فى القطيع قائد بذاته ومؤهل للقيادة، التى تتبدل مع ظروف القائد الأول، لغياب أو مرض أو قتل أو قنص! فالهدف والرؤية والطريق موحد عند الجميع، وكلهم قادرون على الوصول بالآخرين للهدف.

فإذا كان نابليون مايسترو الحرب وبيتهوفن مايسترو التمرد، إلا أن التاريخ لم ينجبهما مرة أخرى، إلا بأمثلة لا ترقى لتكرار النموذج، إلا بمجرد تشوهات نابليونية وعدمية بيتهوفينية!

وهنا تكمن خطورة التسليم بالنموذج أو البطل أو المُلهم، وتغييب أو تسكين أو قمع أو ترويض أو إرضاء الآخرين ليكونوا عازفى الأوركسترا أو الكورس فقط! فكما لا نصر بدون جنود أو لحن بلا عازفين، فلا بقاء أو خلود بلا قيادة! محور القائد هو معرفته وإلمامه بعمل ودور وقدرة كل آلة وكل سلاح! ومن هنا سنحتاج عهدا جديدا لاستكشاف واستنفار وشحذ وتعليم مفاهيم ومعانى القيادة بداخلنا على كل المستويات وفى كل المجالات، للخروج بجيل يكون مايسترو العقول والظروف.

الموضوع تجاوز مفهوم فريق العمل وحتمية التعاون، تجاوز التعامل مع الوعى الجمعى وعاد لأهمية الفرد فى استعادة مفهوم الخليفة على الأرض، وأهمية احتراف فن البقاء بقيادة الظروف والإمكانيات والآخرين، فى سبيل صياغة وتحقيق حلم أو مشروع أو تنمية أو مستقبل. إن التحول إلى نموذج الإنسان القائد، سيحول الوعى الجمعى تدريجيا لأن يضم أفرادا قادرين على التغيير المرحلى للتاريخ والجغرافيا بصورة عادلة، منصفة، تعطى كل ذى حق حقه.

انتهت إمبراطورية الإسكندر الأكبر بوفاته وتفتت ولاياته بين قواده العظام فى التنفيذ وليس الرؤية! أسطورة المغول انتهت بعد جنكيزخان لتراجع القيادة ولو صارعت الوجود مع هولاكو والخاقانات العظام!

القرن الـ٢١ مستهدف من تغيرات مناخية عالمية قاسمة، أشباح حروب تهز مناجلها متعجلة، أطماع عالمية تنحت منطقا جديدا بلا قوانين نعرفها، الدنيا تتجه إلى ترجمة مرئية لسيمفونية القدر بقيادة نيرون، تداعيات العزف ستصيب أغلب العازفين بالصمم، أما المشاهدون فقد تصيبهم لوثة نشوة الدم والاكتساح، لتظهر تراجيديا جديدة لن تعالج بالمسكنات المعروفة! لنواجه بمأساة جديدة يتفنن فيها النابوليونيون الجدد، بدون بيتهوفن يشطبهم من سيمفونية لم تمجدهم أصلا، فنكمل باقى سنواتنا بعزف منفرد على أعصاب البشر!

أهمية وجود الإنسان القائد، يستدعى استنفارا للقيادة بداخلنا، التى لن تكون بالكورسات الدولية أو مؤتمرات المنتجعات الساحلية أو دروس الإنترنت أو ترهات مُدربى التنمية البشرية أو شهادات الأكاديميات!

التحدى الحقيقى هو الوصول لأهمية تنفيذ صناعة «مايسترو حياة بدرجة قائد حرب» والتى يجب أن تكون صناعة جديدة مُجمعة، تجند لها عقول ودراسات وأبحاث وتدريبات جادة، من عقول وخبرات أمينة، قادرة على استنطاق وبلورة وتنفيذ ونشر منهجيات جديدة قابلة للتطبيق والتشكيل والتعديل، حتى مرحلة الوصول إلى النموذج الحقيقي.

فاكتشاف واحتراف قيادة موسيقى العقول، ستكون بابا جديدا حتما ندخله لنحترف الجرى كالذئاب باقى سنوات القرن، بعد رحيل النابوليونيين وتوبة البيتهوفنيين.

فالمستقبل لن يعترف إلا بالقادة! ‏

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]