ماهر أبو الفضل يكتب: ماتت الأم الفقيرة وورثها الابن القاسي

أنهي الطفل تعليمه الأساسي بنبوغِ، حسده عليه أترابه ميسورو الحال، كان حلمه أن يصبح ذا مكانة اجتماعية، في مجتمع عانى منه مرارة التنمر على فقره.

ماهر أبو الفضل يكتب: ماتت الأم الفقيرة وورثها الابن القاسي
ماهر أبو الفضل

ماهر أبو الفضل

11:32 ص, الأحد, 9 أغسطس 20

توقظه أمه في الرابعة فجرًا، ليلحق بالخُولي – مسئول العُمال- لجمع القطن عند أحد أعيان القرية المجاورة، مقابل جنيه ونصف الجنيه في اليوم.

كمال، لم يُكمل عامه السادس، لكن وفاة والده وهو في الخامسة من عُمره، تاركًا له شقيقتين إحداهما في نهاية عقدها الثاني، والأخرى ذو العشر سنوات ونيف، مع الفقر المدقع، اضطره كل ذلك لتحمل المسئولية، قبل أن يشتد عوده.

الشمس تُخضب وجنتيه من شدة الألم

أثناء ذهابه للعمل، كانت عيناه ترمق الشاهقة، التي يملكها ميسورو الحال، يسرح بخياله، متمنيًا لو وُلد لأحد مُلاكها، لكان الآن يغط في نوم عميق، وفي عودته يتأمل الأطفال الذين يلهون أمام منازلهم، وهو يتوجع من حرارة الشمس التي خضبت وجنتيه من شدة الألم.

وُلدَ نابهًا، حتى أنه تعلم الكتابة والقراءة، قبل أن يلتحق بالمدرسة الحكومية في قريته، وكان الخُولي يستعين به لكتابة أسماء العُمال، نهاية اليوم.

بعد عودته في الخامسة مساءً، يعطي أمه ما تحصل عليه من نقود طوال النهار، فتُقبله وتدعو له بالبركة، وهو يصارحها بحلمه في امتلاك حجرة مستقلة بها شُرفة- بلكونة- تطل على الزراعات، إلا أنها تصمت لأنها لا تملك سوي الصمت ردًا.

جمع القطن مع عُمال التراحيل

ظل على هذا الحال إلى أن دخل الصف الأول، وبسبب شظف العيش، لم يكن ملتزمًا بالذهاب لمدرسته يوميًا ويكتفي بثلاثة أيام، والعمل باقي الأسبوع مع عُمال التراحيل، لجمع القطن حينًا، وتهيئة الأرض للزراعة- أو كما يسمونها العزيق- أحيانًا.

أنهي الطفل تعليمه الأساسي بنبوغِ، حسده عليه أترابه ميسورو الحال، كان حلمه أن يصبح ذا مكانة اجتماعية، في مجتمع عانى منه مرارة التنمر على فقره.

في عامه الأول بالمرحلة الإعدادية، واجه صعوبة في تعلم اللغة الإنجليزية، طلب من أمه اللحاق بمجموعة تقوية في هذه المادة، لكنها رفضت طلبه لعدم قدرتها على تدبير ثلاثة جنيهات شهريًا.

حاول كمال تعلم الإنجليزية عن طريق استعارة قاموس من أحد زملائه، مقابل معاونته في كتابة موضوع التعبير-الإنشاء- ليتمكن زميله من اجتياز هذه المادة، فلم يملك رفاهية التفكير في الرفض.

الحصول علي الشهادة الإعدادية

عامًا تلو الآخر، نجح الابن في الحصول على الشهادة الإعدادية، والالتحاق بالمدرسة الثانوية في إحدى القرى التي تبعد عن منزله تسعة كيلو مترات، يذهب إليها ويعود منها مترجلًا لعدم امتلاكه أجرة السيارة.

نبوغه اللافت كان أكبر من العوز الذي شب عليه، لكن لم يكن أكبر من حلمه في الالتحاق بالشعبة العلمية، واضطراره دخول القسم الأدبي في الصف الثالث الثانوي، لعدم قدرة أمه على توفير ما يلزم للحصول على دروس في الفيزياء والأحياء.

تزوجت شقيقته الكبرى من أحد الجيران، وتمت خطبة أخته الأخرى، ودخل الفتى كلية السياحة والفنادق، قسم إرشاد سياحي، كان يعمل في الصيف، وكلما سمح الوقت خلال الدراسة نفسها، وفي كل مرة يعطي أمه ما يتحصل عليه من نقود.

الأم ترفض طلب إبنها

ذات يومٍ طلب كمال من أمه الفقيرة، خمسين جنيهًا، للذهاب برفقة زملائه لأحد المعالم السياحية، لم يتخيل أن تصدمه والدته برفضها لعدم امتلاكها هذا المبلغ، صارحها القول بالسؤال عن النقود التي يعطيها لها خلال أيام عمله، وكان صمتها ردًا على تساؤله.

قاطع والدته، حتى أنه لم يلق عليها تحية الصباح أو المساء، إلى أن تسرب الجفاء لقلبه، وتصدعت مشاعر العطف على أمه، جاءته باكية تطلب منه الصفح قائلة له “كَفْى جَفْا فالقَلبْ اكَتَفْى”، فلم يعرها اهتمامًا.

مرضت والدته بداء الموت، رغم أن قلبها مات بسبب حزنها من جفاء فلذة كبدها، طلبت منه أن يصحبها للوحدة الصحية، فرفض، وبعد ثلاثة أيام ماتت الأم.

لم يذرف الدمع علي أمه

تلق الابن القاسي – بمنتصف العمر- عزاء أمه، دون أن يذرف الدمع عليها، وبعد ثلاثة شهور من وفاتها، طرق رجل باب منزله، رحب بالزائر الذي لم يلقاه من قبل.

عرّفه على نفسه، أنه مندوب لإحدى شركات ، وجاء بسبب عدم سداد الأم قسط الوثيقة الشهر الماضي على غير عادتها، فوجئ الابن، قبل أن يخبره أن روحها خرجت لبارئها منذ ثلاثة شهور.

فاجأه مندوب ، أن أمه استصدرت وثيقة للتأمين على حياتها، بقيمة 500 ألف جنيه، يتم استحقاقها بعد عشرين عامًا، أو يحصل عليها الابن وشقيقتاه في حال وفاتها، وطالبه بإحضار شهادة وفاتها للحصول على قيمة التعويض.

الخطاب المفاجأة

المفاجأة لم تكن في قيمة التعويض، بل في الخطاب الذي طلبت الأم من أحد الجيران كتابته، وأعطته للابنة الكبرى لتسليمه لأخيها حال وفاتها، قالت فيه: “يا ابني، لم يكن من السهل عليّ تحملك مسئولية نفسك ومسؤوليتي وشقيقتاك، كلما جئت إليّ منهكًا من شِدة الألم، كان قلبي يقطر دمًا، وفي يوم جاءني مندوب شركة التأمين، وطلب مني إصدار الوثيقة مقابل خمسة ألاف جنيه كل ثلاثة شهور، على أن يتم صرف 500 ألف جنيه بعد عشرين عامًا، أو في حال وفاتي، وافقت على الفور، فهذا المبلغ يكفي لتحقيق طموحك، بامتلاك منزل وليس حجرة ببلكونة تطل على الزراعات، حينما كنت أرفض تلبية طلبك بالحصول على دروس التقوية، كان لإيماني بنبوغك وجلدك، ولأنني كل ما أستطيع ادخاره هو قسط التأمين، يا بني سامحني إن كنت قصرت يومًا في حقك، فلا تعلم كم كنت موجوعة بسببك، وحينما جفوت عليّ، كنت أتمني أن تبتلعني الأرض قبل أن يبتلعني جفاء قلبك، يا ولدي إذا قرأت هذا الخطاب اعلم أنني أدعو لك بالسعادة وأنا في رحاب رب كريم.. سامحني”.

[email protected]