لم يعرف في حياته سوى أمرين، الأكل وتسلق النخيل، في قريتنا الفقيرة المنسيَّة، نظرًا لبُعدها عن بعشرات الكيلو مترات، حتي أصبحنا أبعد عن العالم كله زمنيًا.
قريتنا المسماة “كفر سعد” – التي ليس لها من اسمها نصيب- لم يصلها أيٌّ من المسؤولين، اللهم إلا أحد نواب البرلمان عن الدائرة التي نتبعها جغرافيًا، كنّا نعتقد حينها أن ساكني المدينة يعيشون في مجون ورقص وخلاعة.
طفولة بريئة لم يعكر صفوها سوي وعود الرجل
كانت طفولتي وصديقي أسامة، بريئة، لم يعكر صفوها سوي هذا البدين، الذي كان يأتينا كل خمس سنوات علي ظهر حِمار، يمتلكه عُمدة القرية المجاورة، يتحدث إلينا بكلام لا نفهم معظمه، كله وعودٌ، من نوعية توصيل الصرف الصحي والمياه العذبة وتشغيل الشباب، وغيرها.
لم يشغلنا كلام النائب كثيرًا، وكنا نسعد بوجود هذا الرجل البدين- ليس تنمرًا عليه ولكن لتكدس الشحوم حول رقبته وجحوظ عينه اللافت، من رغد العيش- لأنه كان يوزع على قريتنا، أرغفة من العيش الفينو والجبنة النستو المثلثات، كنا نعتقد أنها مرهمًا للجروح قبل أن نكتشف أنها طعام أبناء المدن.
المأكولات التي يوزعها النائب كل خمس سنوات، مع جنيهين من الورق الجديد، كنا نظن أنها تُذهب ، فهذه فطرتنا، ونعتقد أن هذا الرجل البدين، يعاني الجنون، لأنه يوزع طعامًا بأمول باهظة- أو هكذا كنا نعتقد- مقابل أن يعطيه أباؤنا ممن يمتلكون بطاقات هوية أصواتهم في الانتخابات.
جاثمًا علي صدورنا ثلاث دورات
بعد فوزه، ننتظر خمس سنوات أخرى، حتي يأتينا هذا الرجل الذي كان جاثمًا على صدورنا أكثر من ثلاث دورات، وكنا نتحدث عن هذا الذي جاء على ظهر حمار، وضحكنا عليه، لأننا لم نبذل جهدًا، اللهم إلا ذهاب أبي للجنة الانتخابية والتوقيع على ورقة تقول إنهم اختاروه ممثلًا لهم.
صديقي أسامة، لم ينل مثلي، حظه من التعليم، فأقرب مدرسة من قريتنا “كفر سعد” تبعد 25 كيلو مترًا، كلانا لم نكن نعرف الفارق بين حرف الـT وخيال المآتة – أو المجاتة كما ننطقه-، تلك الدومية التي تستخدم لحماية المحاصيل من الطيور التي كانت تنهشها في الحقل.
الفارق بين حرف الـT وخيال المآتة، كما كان ابن العُمدة يعلمنا إياه، أن الأول عاريًا والثاني محتشمًا بملابس قديمة، ما تعلمناه من ابن العُمدة، أننا بملابسنا المرتقة، لا نختلف كثيرًا عن خيالات المآتة اللهم إلا أنه خيالا لا يتحدث، ونحن خيالات تتنفس من ضلوعها قبل أنوفها، من شِدة الألم وشظف العيش، الذي لم نتوسم يومًا أن ننفك من بين أنيابه.
في يوم، سمعنا صوت المذياع، يقول، إن باب الهجرة العشوائية لأمريكا تم فتحه، وأن من أراد لها الحج سبيلًا، عليه بملء استمارة، وقتها جن جنون شباب القرية، ومنهم صديقي أسامة، حاولت أن أثنيه عن تلك الرغبة غير المحسوبة، إلا أنه أصر، بل ذهب للمدينة، ودفع خمس جنيهات مقابل ملء تلك الاستمارة.
صديقي يعود من المدينة لكن ليس كما ذهب إليها
عاد صديقي من المدينة، لكن ليس كما ذهب إليها، عاد بقصص عن سكانها، كنا نسهر للفجر لسماعها، وأنهم يشبهوننا في التكوين، لكن يختلفون عنا في ألوانهم وألسنتهم، وطبائعهم وطُرق معايشهم.
يبدو أن القدر استجاب لصديقي، الذي لا يعرف الفارق بين حرف الـT وخيال المآتة، فكان من المحظوظين بالهجرة لتلك الدولة التي لم نسمع عنها إلا في المذياع، كنت أقول له مازحًا قبل سفره، عسي أن تعود إلينا يومًا بدينا كنائب البرلمان.
سافر أسامة، ومعه ذكرياتنا، وما بقي مجرد دقات قلب للعيش فقط، مرت سنون عديدة، لم أحسبها لكثرتها، ولأننا لم نترجى خيرًا من نائب القرية البدين، أنشأت مشروعًا لتربية الطيور، بعد أن حصلت على تمويل من الجمعية الزراعية، مقابل سداد مائة جنيه شهريًا شاملة رسومًا لوثيقة .
في يوم من أيام الصيف الحارة، وبينما كنت مشغولًا بإطعام الطيور، وإذ بساعي البريد يسأل عن منزل صديقي، لتسليم أبيه خطابًا، ركضت إليه لاستلام الخطاب، وفي مساء اليوم، ذهبنا أنا ووالد أسامة، لابن العُمدة الذي حصل على دبلوم التجارة، ليقرأ لنا ما جاء فيه.
النبأ السار وموت الطيور
النبأ السار، أن أسامة سيعود إلينا زائرًا بعد عشر سنوات من الغُرية، أما النبأ غير السار، هو ارتفاع درجة الحرارة، ونفوق- أو موت- الطيور التي كنت أبني آمالًا عليها لترميم جدار منزلنا المتهالك.
جاء موعد استحقاق قسط القرض، الذي حصلت عليه من الجمعية الزراعية، وحضر مندوبها للمطالبة به، ولأول مرة أشعر بالعُري، وبعد أن تمالكت نفسي المهلهلة وأعصابي المتهالكة كجدار المنزل، صارحت المندوب بالحقيقة، متوقعًا تهديدي بالسجن.
المفاجئة، أن مندوبًا من شركة التأمين، التي كنت أسدد لها رسومًا مع قسط القرض، تحرى من الجيران عن صدق روايتي، وبعد تأكده، فأجاني بأن شركته، ستتحمل سداد باقي أقساط القرض نيابة عني، وأنه يمكنني الحصول على قرض آخر للبدء في مشروع جديد.
سعادة لم تكتمل
كنت سعيدًا، لكن سعادتي لم تكتمل رغم عودة صديقي، لأنه ليس الشخص الذي سافر لأمريكا منذ عشر سنوات ونيف تقريبًا، فمن فرحت بعودته، شخص آخر، أسامة الذي لا يعرف الفارق بين حرف الـ T وخيال المآتة، بدأ يقحم كلمات إنجليزية في حديثه، وكأنه يتحدث مع عجمٍ، أو أنه ولد وعاش في أمريكا وليس في كفر سعد.
صديقي الذي مازحته قبل سفره، محذرًا إياه بالعودة بدينا كنائب البرلمان، كان يتحدث في السياسة، كالرجل البدين، وفاجأنا بأنه اشتري منزلًا في المدينة، لأنه لا يتحمل الحياة في قريتنا البعيدة والمنسية، وأنه سيرشح نفسه في الانتخابات المقبلة، واعدًا إيانا بتوصيل المياه العذبة لكفر سعد وتشغيل شبابها.
ودعته قبل أن يعود لمنزله الجديد في المدينة، بعد أن وعدنا أنه سيأتي خلال عام، قبل فتح باب الترشح لتنظيم مؤتمر انتخابي للإعلان عن برنامجه، قلت له “لا تنس العيش الفينو والجبنة النستو”، عاجلني قائلًا، ولن أنسي الجنيهين الورق الجديدين أيضًا.