في منزل من الطوب اللبِن أو “الني” وُلد، رغم بساطة الحياة حينا وشظفها أحيانا، إلا أن البركة كانت دائمًا تملأ أركان وجنبات المكان، السبب في ذلك أن الله حباه بأم ذات بصيرة، وخِبرة اكتسبتها من الحياة وليست من المدرسة ، وأب لم يتعلم في حياتِه سوي درس الصبر.
الفشل الكلوي يصيب الأب والعوز يقتله
هكذا عاش عادل في قريته الفقيرة بمحافظة المنيا، حتي أكمل عامه الخامس عشر، وقبل أن يشتد ساعده، لمعاونة والديه في تربية ، أُصيب الوالد بالفشل الكلوي، وبسبب العوز وعدم تمكنه من تدبير نفقات العلاج،توفي.
أصر الشاب علي استكمال تعليمه ، حتي حصل علي بكالوريوس الهندسة قسم البترول، فور تخرجه اضطر للعمل سائقًا علي ميكروباص، وبعد عامين نجح في الحصول علي وظيفة في إحدي الخاصة، براتب صغير، ساعده علي توفير نفقات الحياة لأسرته، لكن لا يساعده في تجهيز شقيقتيه المقبلتين علي الزواج.
راسل عادل شركات البترول في الخليج، علي أمل أن يبتسم له القدر، ويبدو أن أملًا بات يلوح في الأفق- أو هكذا ظن-، ففي يوم من أيامه التي تشبه بعضها لرتباتها، فوجئ برسالة علي بريده الإلكتروني، تطلب منه إرسال سيرته الذاتية للعمل في إحدي الشركات، وان يحدد الوظيفة التي يرغب العمل بها، والراتب الذي يطمح فيه.
العرض المُغر
بعد خمسة أيام، فوجئ الشاب برسالة جديدة، مرفقً بها عرضٌ مُغرٍ، لايمكن رفضه، وهو تعيينه مديرًا للتعاقدات براتب شهري قيمته خمسة آلاف دولار، بخلاف البدلات والمزايا الأخري، بشرط أن يتواصل مع مكتبِ للمحاماة لإنهاء الإجراءات مقابل سداده مبلغًا ماليًا يُعادل خمسمائة دولار، وأنه سيحصل علي هذه فور وصوله الدولة الخليجية، بالإضافة إلي أجر ثلاثة شهور مقدمًا ، لسداد التزاماته في القاهرة، ليتفرغ للعمل معهم.
ركض الشاب علي أمه، فاجأها بالعرض السخي،ظنًا منه أنها ستتهلل فرحًا،لاسيما وأنه أخبرها أنه بعد عام واحد، سيتمكن من إعادة بناء المنزل بالخرسانة، بدلًا من الطين، وسيزوج شقيقتيه، لكنه فوجئ برفضها، مؤكدة له عدم معقولية هذا السخاء، امتعض ، طالبًا منها أن تستدين من عُمدة المبلغ الذي سيرسله لمكتب المحاماة في الخارج، لم تتحمل الأم الصابرة، إلحاح فلذة كبدها، واستدانت بالفعل المبلغ المطلوب، الذي أرسله ابنها لمكتب المحاماة.
مرت الأيام ، يومًا تلو الآخر، حاول الشاب التواصل مع الشركة الخليجية، دون جدوي، فتواصل بمكتب المحاماة، الذي أخبره أن الإجراءات ستستغرق وقتًا ، وأن حضوره بات ضرورة لإنهاء تلك الإجراءت.
ماذا طلبت الأم من ابنها الراغب في السفر؟
شيطان الإغراء أعمي بصيرة الشاب،أخبر أمه أنه سيستدين من الشركة التي يعمل فيها، لحجز تذكرة السفر للسياحة، وفور وصوله ، سيوفق مكتب المحاماة في الخليج أوضاعه، رفضت الأم مجددًا سفره، طالبة منه الرضا بما قسمه الله، وأن يجتهد في عمله ليحقق أحلامه، لكنه ألح في رغبته.
لم يكن الشاب طامحًا سوي في نقل أسرته من مربع العوز، لمربع الستر، ظنًا منه أن الستر مال وفير، ومنزل خرساني جديد
طلبت منه شركة السياحة التي ستساعده في استخراج تأشيرة دخول الدولة الخليجية، وثيقة ، تسمي بعلي السفر ، مقابل رسوم يتم سدادها مع نفقات التأشيرة.
المفاجأة تنتظر عادل بعد وصوله الخليج
سافر الشاب بالفعل، كان في عجلة من أمره، سأل عن عنوان الشركة الخليجية، وفور وصوله لها، فوجئ بأنها لم تراسله علي بريده الإلكتروني من الأساس!! اندهش، وبعد سؤاله عن مكتب المحاماة، صُعق حينما علم عدم وجوده ، واكتشافه- مؤخرًا- أنه ضحية عملية نصب، قادها مجموعة من اللصوص ومحترفو النصب.
أصيب عادل بسكتة قلبية أودت بحياته، تم إبلاغ السفارة المصرية التي أنهت إجراءات تسفيره داخل نعش، بدلًا من عودته محملًا بالمال الذي سينقذ أسرته من العوز، وتحملت شركة التأمين نفقات نقل الجثمان.
سمعت الأم الصابرة، النبأ المشؤوم ، الذي زلزل فؤادها ،فقد رحل عادل ورحلت معه حياتها وغايتها،وبقي حزنها الذي ملأ أرجاء المنزل المبني بالطوب اللبِن، لتشعر لأول مرة أنها تعيش في العراء.